صالح السلطان

الأصل والعادة أن العلاقة عكسية بينهما، لكنها ليست كذلك دوما ولزوما. وإذا حصل هذا، بمعنى أنه وجدت حالات اختيار بين نوع نمو ونوع نمو آخر، فإن الاهتمام بمدى خفض الفقر عامل أساس في اختيار سياسات وأنماط من نمو الاقتصاد.
قياس النمو الاقتصادي وأنماطه أمر معروف عالميا وتصدر الهيئات المختصة أرقامه دوريا في مختلف دول العالم في حجم الناتج المحلي والإنفاق عليه، وكم نما حسب الأنشطة والقطاعات وبالأسعار الاسمية والحقيقية، أي باستبعاد أثر التضخم. لكن الأمر ليس كذلك في قياس خفض الفقر. لا توجد ممارسات مشهورة معروفة كحال قياس النمو الاقتصادي. لكن تستخدم عدة طرق ومؤشرات للدلالة عليه. من ذلك التغير في حجم الاستهلاك وكيفية توزيعه، بين الناس. من الأساليب قياس مدى تركز الدخل والثروات.
وأساس تأثير النمو الاقتصادي أن نموا أعلى ينتج دخلا أعلى ووظائف أكثر. وتبعا يتيح فرصا أكثر لانخفاض مستويات الفقر. وكل هذا أمر سهل فهمه. على سبيل المثال، النمو بطبيعته يزيد فرص حصول الغنى. ونعلم أن ديننا فرض الزكاة وجعل الفقراء أول مستحقيها. والهدف إخراجهم من دائرة العوز والفقر.

الكلام السابق كلام عام. أي ليس بالضرورة منطبقا على كل ظرف وزمان. كما أن العكس ممكن حدوثه، أعني يمكن خفض الفقر حتى لو لم يتحقق نمو اقتصادي له اعتبارا على المديين القصير والمتوسط. لكن هذا كله لا ينقض أصل العلاقة العكسية.
أجريت دراسات في دول لا تعد غنية لاختبار تأثير النمو في الفقر فوجد أن التأثير قوي. لكنه يتفاوت بين الدول. وهذا مربط النقاش. الأصل لا اختلاف عليه بل الخلاف في التفاصيل.
من الدخول في التفاصيل أن نسأل ونبحث عن طبيعة النمو الاقتصادي ذي التأثير الأقوى في خفض الفقر. إنه النمو الذي يبدو واضحا في تحسن واضح في البنية التحتية ووسائل النقل والتعليم والصحة. أما النمو ذو التأثير أو الأثر الأقل في تلك القطاعات والأنشطة فقد لوحظ أنه أقل تأثيرا تجاه خفض الفقر.
لماذا كان تأثير تلك القطاعات والأنشطة أقوى؟

تطوير وتنمية البنية الأساسية، تسهل سعي الفقراء لطلب الرزق. ومن ثم من المهم دراسة نمط الإنفاق الحكومي وبنية التشريعات ذات الصلة به وبنمو القطاع الخاص ومدى مساهمتهما معا في تطوير البنية الأساسية. وفي هذا انتهت دراسات كثيرة إلى أن النمو الاقتصادي ومعدل العطالة والأجر الحقيقي هذه الثلاثة تسهم في خفض الفقر.

وفي هذا نتذكر الحديث النبوي الذي يرغب في أن يأكل الإنسان من عمل يده ويتعفف عن السؤال. في حديث الزبير بن العوام، وحديث أبي هريرة رضي الله عنهما: "لأن يأخذ أحدكم أحبله، فيأتي بحزمة من الحطب على ظهره، فيبيعها، فيكف الله بها وجهه؛ خير له من

سؤال الناس: أعطوه، أو منعوه". أي كونه يحمل، أو يكسب، أو يحتطب، أو يعمل في الحديد، أو النجارة، أو الخرازة، أو الزراعة؛ خير له من سؤال الناس. ولا شك أن تطوير البنية التحتية يسهل للناس عامة والفقراء خاصة التكسب من وراء هذه الأعمال وأمثالها.
مما سبق نستنتج أن مدى فعالية وشمولية السياسات الاقتصادية والمالية مؤثر في مدى قوة تأثير النمو في تقليص الفقر. ويمكن معرفة ذلك من خلال عدة طرق منها مدى جودة تطبيق الزكاة في الدول الإسلامية. وفي هذا نشرت قبل عام تقريبا دراسة بالإنجليزية عن تأثير الزكاة في النمو الاقتصادي والمنفعة المجتمعية society welfare في إندونيسيا. The Influence of Zakat on Economic Growth and Welfare Society in Indonesia
وكان من محفزات عمل الدراسة ما حصل في إندونيسيا من تطوير في جمع وتوزيع الزكاة في الأعوام الأخيرة. استخدم معدو الدراسة ثلاثة مؤشرات في التعرف على التأثير: نسبة الفقراء ورقم قياسي index للتنمية البشرية ورقم قياسي لتوزع دخول أو ثروات السكان GINI. وجرى استخدام نموذج اقتصادي بنيوي Structural Equation Model. وأظهرت النتائج عدم وجود علاقة قوية. ورأت أن السبب حداثة التجربة التي انعكست على ضعف حجم ما يجمع من زكاة مقارنة بالمفترض، وأن النظام الزكوي المطور ما زالت به عيوب كثيرة، تتطلب تحسينا.

وهنا أشير إلى تطورات عديدة شهدتها الهيئة العامة للزكاة والدخل في بلادنا. وكان من آخرها قبل ثلاثة أشهر تدشين أكاديمية الزكاة والدخل، الهادفة إلى رفع كفاءة أداء موظفي الهيئة.
باختصار، الأصل أن العلاقة عكسية بين النمو الاقتصادي والفقر. مزيد نمو ينتج خفض الفقر. لكن إلى أي حد ينخفض الفقر؟ قد تتبع سياسات تنمي الاقتصاد، لكن تأثيرها ليس بتلك القوة في خفض معدلات الفقر. وحيث إن تقليص الفقر إلى أدنى درجة أمر بالغ الأهمية من جهة الشريعة الغراء، ومن جهة النظر الإنساني المحض. فإنه ينبغي اعتبار مدى قوة خفض الفقر عاملا أساسيا في اختيار سياسات وأنماط نمو الاقتصاد.