إبراهيم النحاس

إننا أمام مرحلة تاريخية دقيقة وعصيبة تتطلب استراتيجية موحدة تتبناها جميع الأوطان العربية توضح المسؤوليات والالتزامات والواجبات التي يجب أن تتبع لحفظ أمن وسلامة واستقرار المجتمعات العربية من غير تهاون أو تخاذل أو تردد..

عندما أعلن الرئيس الأميركي ترمب في 28 يناير 2020م "خطة ترمب للسلام" أو "صفقة القرن" كما يطلق عليها إعلامياً، كانت التوقعات أن تقوم تركيا، عبر رئيسها أردوغان، بإعلان حالة الطوارئ والتعبئة العامة في تركيا كردة فعل على "خطة ترمب للسلام"، ونُصرةً للفلسطينيين الذين يعانون من الاحتلال الإسرائيلي، ودفاعاً عن القدس التي تتعرض للتهويد المُمنهج الذي تقوم به إسرائيل. وهذه التوقعات للدور التركي وصلت إلى الحد الذي انتظر به الشارع العربي والإسلامي قيام الرئيس أردوغان بإعلان حالة الحرب الشاملة لتحرير فلسطين من المحتلين الإسرائيليين. ولكن خابت توقعات الرأي العام العربي والإسلامي المتعاطف مع توجهات الرئيس التركي أردوغان بعدم إعلانه الحرب ضد إسرائيل، وعدم قيامه بتحرير فلسطين من الغزاة الإسرائيليين، كما كان يتحدث عبر المنابر الإعلامية، وكما كان يطالب القيادات العربية والإسلامية، وكما كان يدعي عبر اللقاءات الصحفية والمنتديات الحزبية المؤدلجة.

لقد مضى أكثر من ثلاثة أسابيع على إعلان "خطة ترمب للسلام" ومضى معها تطبيق بنودها على أرض الواقع كما تم إعلانه وتضمنتها بنودها؛ ومازال الرئيس التركي يتحدث عبر وسائل الإعلام متهماً القيادات العربية والإسلامية بعدم حماية القدس، وبعدم مساندة الفلسطينيين؛ ومن جهة أخرى مُحرضاً الشعوب العربية والإسلامية بالتحرك ضد حكوماتهم وقياداتهم مستخدماً كلمات عاطفية ثورية وشعارات إسلامية مُضللة. لقد مضت ثلاثة أسابيع على إعلان "صفقة القرن" وسارت معها مخططات التهويد الشامل لمدينة القدس والسعي الإسرائيلي المتواصل لضم ما تبقى من أراضٍ فلسطينية تحت حكمهم وفرض سيطرتهم عليها؛ ومازال الرئيس التركي يُمارس التدليس على الرأي العام العربي والإسلامي، ويختلق الأكاذيب لتشويه صورة القيادات العربية والإسلامية، ويصنع الأوهام في مخيلة البسطاء، ويُصدر الأوهام لجذب أصحاب التوجهات الحزبية للوقوف معه ومساندة أطروحاته الخيالية. لقد مضت ثلاثة أسابيع على إعلان "خطة ترمب للسلام"، وستمضي سنوات قادمة يتم خلالها تطبيق ما تضمنته بنودها؛ وسيظل الرئيس أردوغان يتحدث ويتحدث كثيراً عن حماية القدس والدفاع عن الفلسطينيين، وهذا أقصى ما سيقوم به وما يستطيع فعله؛ فأسلوبه وسلوكه في المستقبل لن يختلفا عن أسلوبه وسلوكه في الماضي، وهو الكذب والتدليس بتوظيفه لمعاناة الفلسطينيين والمتاجرة بقضيتهم العادلة.

أردوغان، الذي يوزع التُهم على القيادات العربية والإسلامية بعدم مناصرة الفلسطينيين، يقوم بإرسال جنود أتراك إلى ليبيا لتدريب المرتزقة والعملاء والمتطرفين والإرهابيين الذين يقتلون أبناء ليبيا ويسعون في أرضها فساداً. أردوغان، الذي يُحرض الشارع العربي ضد قياداته وسياسييه، يسعى لاحتلال ليبيا، ويحلم بفرض سيطرته عليها من خلال إرساله العديد من الجنود الأتراك وتزويد الجماعات المتطرفة والتنظيمات الإرهابية بأحداث أنواع السلام والذخائر والمعدات العسكرية. أردوغان، الذي يدعي بأنه المدافع الأمين عن القدس والمناصر الوحيد للفلسطينيين، يسعى إلى تفتيت الدولة الليبية، ويهدف إلى سرقة ثرواتها النفطية والطبيعية والاستيلاء على خيراتها الظاهرة والباطنة. إنه أردوغان المراوغ في سياساته، والمدلس في خطاباته، والمؤدلج في توجهاته، الذي استطاع توظيف القضية الفلسطينية لتحقيق أهدافه السياسية التوسعية على حساب الأمة العربية وأمنها القومي في عدة مناطق عربية، ومنها تواجده الحالي في الأراضي الليبية وتطلعه المستقبلي للسيطرة الكاملة على قرارها السيادي عبر عملائه ومرتزقته الذين ارتضوا أن يكونوا أدوات طيعة تحت إمرته.

إنه أردوغان، الوجه الآخر لخُميني إيران، الذي يدعي أن طريق تحرير فلسطين يمر عبر الأراضي العربية حتى لو كانت تبعد آلاف الكيلومترات عن فلسطين، كما هي الحال في موقع ليبيا الجغرافي. إنها السياسة التوسعية التي يتبناها أردوغان، كما يتبناها نظام الخميني في إيران، الساعية لإعادة الهيمنة التركية الهدامة على الأراضي العربية، كما كان على مدى ستة قرون من الظُلم والاستبداد والقهر والتجهيل. إنها العثمانية الجديدة التي يؤمن بها أردوغان المُتطرف في نظرته القومية التي تُعلي من شأن القومية التركية وتنتقص من شأن القومية العربية ومن ينتمي لها. إنها العثمانية الجديدة التي يسعى أردوغان لإقامتها عن طريق توظيفه القضية الفلسطينية، ومتاجرته بمعاناة الفلسطينيين، واستغلاله حالة التعاطف الشعبي الكبيرة عربياً وإسلامياً مع فلسطين والفلسطينيين. إنها فلسطين الجريحة التي يستخدم رئيس تركيا اسمها العزيز لتحقيق أهدافه السياسية، ويستغل مكانتها في قلوب العرب والمسلمين لتنفيذ أجندته التوسعية، ويوظف معاناة أبنائها وشعبها لكسب تعاطف وولاء الشعوب العربية والإسلامية.

وفي الختام من الأهمية القول: إن على الأمة العربية مسؤولية تاريخية في حفظ استقلال جميع الأوطان العربية وحمايتها من الأطماع التوسعية القادمة من دول الجوار الإقليمية وخاصة التركية والإيرانية اللتين تُعلنان عن نفسهما وتتنافسان على مد نفوذهما. إننا أمام مرحلة تاريخية دقيقة وعصيبة تتطلب استراتيجية موحدة تتبناها جميع الأوطان العربية توضح المسؤوليات والالتزامات والواجبات التي يجب أن تتبع لحفظ أمن وسلامة واستقرار المجتمعات العربية من غير تهاون أو تخاذل أو تردد. إننا أمام مرحلة مفصلية في التاريخ العربي المُعاصر يمكن من خلالها معرفة الأوفياء لأوطانهم وأمتهم؛ وفي المقابل سوف يفتضح وينكشف مرتزقة وعملاء أعداء الأمة العربية وخُدام أجندتهم التوسعية.