أزراج عمر

لماذا سكت جراد طوال هذه السنوات مع أنه كان يدرك تماما حقائق التدهور الشامل لمنظومة الحكم في أعلى هرم مؤسسات وأجهزة الدولة وعلى المستوى الاجتماعي والثقافي والتربوي والاقتصادي.

المدن الجزائرية تقدم الصور البدائية للعشوائية المعمارية بامتياز

لم تعد ظاهرة بكاء السياسيين الجزائريين تدهشُ أحدا سواء على المستوى الشعبي أو على مستوى النخب المعارضة الراديكالية، بل صارت أمرا روتينيا وبمثابة ملح في الطعام في هذه الأيام، وعلى هذا الأساس يسجل بكاء رئيس الوزراء الجزائري عبدالعزيز جراد، خلال الأسبوع الماضي على أحوال الجزائر المتردية، إلى جانب بكاء الرئيس الحالي عبدالمجيد تبون أثناء حملته الانتخابية في السباق الرئاسي، وكذلك بكاء المرشحين للرئاسية خلال محاولاتهم تلميع أنفسهم أمام الناخبين الجزائريين في الجزائر العميقة وهم عزالدين ميهوبي وزير الثقافة الأسبق، وعبدالقادر بن قرينة وزير أسبق للسياحة ورئيس حزب حركة البناء الذي يتحكم الآن في البرلمان، وعبدالعزيز بلعيد رئيس حزب المستقبل والقيادي السابق في جبهة التحرير الوطني.

وكما هو معروف فإن البكاء حالة سيكولوجية تحدث للإنسان حين يحاصره الإحساس بالعجز حيال الأزمات، أو عندما تنهال على ذاكرته مشاعر ارتكاب ذنب ما فتئ يعذبه. وفي كل هذه الحالات فإن السياسي الذي يوصف كبائع للأمل لا ينبغي أن يظهر بمظهر اليائس البكّاء.

في هذا السياق نتساءل؛ هل يعود بكاء رئيس الوزراء الجزائري جراد إلى كونه فوجئ بانحطاط الأوضاع في الأرياف الجزائرية التي وصفها في تصريح يبدو شجاعا حيث قال بأن فئة كبيرة من الشعب الجزائري ما تزال في القرون الوسطى في إشارة إلى معاناة ما يسمى في الأدبيات السياسية الجزائرية بمناطق الظل التي تمثل مصدر الأزمة في المجتمع الجزائري على مدى سنوات طويلة؟ ولكن لماذا يتفاجأ جراد وهو الجامعي الذي مضى على وجوده في المطبخ السياسي الجزائري المركزي أكثر من 26 سنة كاملة؟

وفي الواقع فإن تصريح جراد يبدو ظاهريا علامة صحية من جهة، ولكن قد يفسر من جهة أخرى بأنه ترجمة أمينة، وإن كانت غير واعية، للإحساس بالذنب تجاه الملايين من المواطنين الجزائريين المحرومين الذين فرضت عليهم كافة أشكال التخلف البنيوي. ورغم الإيجابية الشكلية لهذا التصريح فإنه من حق الجزائريين أن يطرحوا الأسئلة التالية على جراد وعلى كل الذين حكموا الجزائر منذ 1962 إلى اليوم: لماذا سكت جراد عن هذه الحقيقة طوال هذه السنوات مع أنه كان يدرك تماما، بحكم المسؤوليات العليا التي تولاها وبحكم تكوينه التعليمي، حقائق التدهور الشامل لمنظومة الحكم في أعلى أجهزة الدولة وعلى المستوى الاجتماعي والثقافي والتربوي والاقتصادي وتداعياتها في المجتمع الجزائري؟ ولماذا لم يحتجّ عندما كان أحد أقطاب الحكم؟

إن اختزال صور العصور الوسطى في الجزائر في انعدام الغاز أو المواصلات، أو السكن في القرى الريفية البعيدة والمتاخمة للمدن الكبرى فقط هو اختزال اعتباطي، ولذلك ينبغي استبدال الوصف بمصطلح آخر مطابق لأكثر حقائق الواقع الجزائري في وضعه البائس.

ويبدو أن المصطلح الأكثر مطابقة لوصف أوضاع المجتمع الجزائري هو مصطلح “العصر البدائي” الذي نجد له ترجمة حقيقية في المجتمع الجزائري على مستوى التعليم المنحط، وبؤس المؤسسات الثقافية ومن يديرها، وغياب الأمن الاقتصادي للمواطنين، فضلا عن بروز كافة أشكال العنف المادي والرمزي في ظل غياب شروط أخلاقيات العيش المشترك، وشرعية المؤسسات الحاكمة ومن على رأسها.

عمليا فإن المدن الجزائرية تقدم الصور البدائية للعشوائية المعمارية بامتياز حيث يتواصل بناء أكواخ الإسمنت الفوضوية وتدمير جماليات المعمار الموروث عن الحقبة الاستعمارية. ولاشك أن هذه الصور البدائية تتماثل مع صور الذهنيات البدائية المستشرية في المجتمع الحضري والريفي معا.

ومن الواضح حتى الآن هو غياب الخطة الوطنية والبرنامج العاجل القابل للتطبيق الذي تقدر حكومة جراد أن تنفذه لإخراج الجزائر من العصور البدائية المركبة، ولذلك يجب أن تطلب الأحزاب الجزائرية الموالية للنظام وكذلك غرفتا البرلمان والمجلس الدستوري ومختلف المجالس العليا، الاعتذار فورا من الشعب الجزائري جراء الكذب المزمن عليه بواسطة فولكلور تغنّيها المزيف على مدى سنوات طويلة بأن الجزائر دولة حديثة وعصرية، ولكن الحقيقة قد كشفت الآن عكس ذلك.