محمد الرميحي

الاحتمال المرجح أن يقوم الحكم السوداني بتسليم رئيس الجمهورية السابق عمر البشير إلى محكمة الجنايات الدولية، وإن تم ذلك الاحتمال فهي أخبار إيجابية لـ3 أطراف؛ الأول الشعب السوداني، والثاني الجمهور العربي العريض، والثالث الجمهور الأفريقي. فلم يعد ممكناً ونحن في القرن الحادي والعشرين أن تنفرد مجموعة قليلة من أهل النظام باتخاذ قرار غير إنساني بتصفية مجاميع من المواطنين عن طريق القتل الجماعي، ويتجاهل العالم ذلك الخرق. أصبح الرأي العام العالمي ناظماً لقضايا حقوق الإنسان، فمن ينتهكها يلاحق، ولو بعد حين. تلك حقيقة كلما اعترفنا بها تناقصت رخص البعض في سفك دماء الشعوب. تكثر في عالمنا اليوم أشكال من الإبادة الجماعية بشكل واسع أو ضيق، وهي ظاهرة بدرجات في كل من سوريا وإيران والعراق، وطبعاً مورست في السودان منذ أكثر من عقد من السنين. انتهاكات السودان أثارت الرأي العام العالمي مبكراً، ففي عام 2004 شكل كوفي أنان الأمين العام للأمم المتحدة وقتها لجنة دولية للنظر في انتهاكات حقوق الإنسان في دارفور شرق السودان، وفي مارس (آذار) 2005 أصدر مجلس الأمن الدولي قراراً بإحالة ملف دارفور إلى المحكمة الجنائية الدولية، وفي العام اللاحق وجد المدعي العام للمحكمة يوم ذاك «أدلة على حدوث عمليات قتل وتعذيب واغتصاب في إقليم درافور». في 2007 صدرت لائحة اتهام تشير إلى تورط عدد من المسؤولين السودانيين، وعلى رأسهم رئيس الجمهورية وقت ذاك عمر البشير. كان رد البشير وقتها في إحدى خطبه، حيث قال بازدراء

: «إن محكمة الجنايات الدولية تحت حذائي»! في صلف يشابه كل ردود فعل اللامبالين من السياسيين ممن تجاوزوا الحق إلى الباطل وساروا في طريق قمع شعوبهم. وهذا السودان اليوم يدفع من عيش شعبه ثمن ذلك التهور المفضي إلى احتقار الروح الإنسانية، وهي على شكل تعويضات لأحداث، وقعت قبل 20 عاماً في الاعتداء على البارجة الأميركية «يو إس إس كول»، لأن من قام بذلك العمل دُرب وأطلق إلى ساحة الإرهاب تحت حكم البشير. من سخرية التاريخ أن البشير في آخر مناورة له في العلاقات الإقليمية لجأ لزيارة بشار الأسد، كان آخر «رئيس» يحتضنه بالقُبل، واحتمال أن يلحق به إلى العدالة الدولية جراء مجازره في سوريا.

سبق البشير بطرق مختلفة رؤساء دول وزعماء ميليشيات في إقليمنا الموبوء، ظنوا أنهم بعيدون عن المساءلة، وهم كُثر، زين الدين بن علي ومعمر القذافي وقبلهما صدام حسين، ولحقهم في النهاية عمر البشير من بين شخوص أخرى اعتقدوا في وقت ما أن العدالة لن تطالهم، فطالت بعضهم عدالة السماء، وآخرون ينتظرون عدالة الأرض. يمكن الافتراض أن تسليم البشير للمحكمة الجنائية الدولية هو عمل يتفوق على مبدأ العدالة بمعناها العام، ليصل إلى الأمثولة التي قد تكون رادعة ضد الاستبداد. ذلك هو الفارق في الحالة السودانية، التي سوف ترسل رسالة أثناء سير المحاكمة، بأن أي مرتكب لإبادة جماعية لا يمكنه الفرار من العدالة بعد أن طفق يعيث فساداً في أهله ومواطنيه ويسلط عليهم جلاوزته، كما يحدث اليوم في سوريا، ومن جانب آخر، قد يساعد تقديم البشير للمحاكمة في تقدم العرب إلى أرض سياسية أكثر سلاماً وصلابة. حقيقة تكاد تكون غير معروفة على نطاق واسع لدى الرأي العام العربي أن هناك قوانين دولية تفرض مواكبتها بقوانين محلية. لقد فرض المجتمع الدولي مجموعة من القيم والأخلاق السياسية تشكلت في قوانين ملزمة، على رأس تلك القوانين الدولية الواجبة النفاذ لدى الدول قاطبة على سبيل المثال قوانين حقوق الإنسان وقوانين الفساد، وهي اليوم عالمية (دولية) ومن ثم تتبعها قوانين محلية.

إنْ سُلم البشير لمحاكمته سيكون ذلك أول سابقة عربية، هي إدانة لعملية اسمها استخدام «آيديولوجيا الرعب» للبقاء في السلطة، وهي التي مر بها كثير من الشعوب العربية وفي الجوار العربي. التطهير الإثني السوري الذي يقوم به نظام بشار الأسد، حيث يُحل جماعات غريبة بدلاً من أهل المكان، مع هدم منظم للقرى والمدن، والذي استمر حتى الآن نحو العقد الكامل، هو جزء من آيديولوجيا الرعب، كمثل نزول القمصان السود في أحياء بيروت في 7 مايو (أيار) عام 2008 من أجل إشاعة الرعب في قلوب سكان المدينة، خضوعاً لسيطرة «حزب الله»، ومثلها ما اعترف به حسن نصر الله مؤخراً أن قاسم سليماني طلب منه 200 عنصر (من شبيحة «حزب الله») في الغالب لاستخدامهم قناصة من أجل إشاعة الرعب بين المتظاهرين المسالمين في شوارع المدن العراقية، كذلك استخدام القتل المفرط في شوارع مدن إيران ضد متظاهرين سلميين. كل ذلك هو طغيان سياسي تحاسب عليه القوانين الدولية.

ويشترك الجميع في فكرة واحدة، وهي أن الحل الأمثل لإزالة التناقضات (أي شكل من المعارضة) هو القيام بالتطهير العرقي والمكاني لشخوصها. يحتاج حامل آيديولوجيا الرعب من طرف آخر أن يغسل عقول تابعيه عن طريق اعتبار الآخرين خونة وعملاء (مجرمين دون جرم)، هذا ما فعله أدولف هتلر في «الحل النهائي» في معسكرات الاعتقال، وأيضاً فعله جوزيف ستالين في حكمه الممتد 30 عاماً، كما البشير، فالديكتاتور طبع واحد. فقدان خطط تنمية وطنية ناجحة في مجتمعاتنا المعاصرة يفرز «القائد الملهم» أو «المعصوم»، مثل علي خامنئي أو صدام حسين أو حسن نصر الله، ويتحول الزعيم من «شخص مصاب بجنون العظمة» كما هو بالفعل، إلى كونه «العبقري الملهم»! وتبرر بعد ذلك كل أعماله في القتل الجماعي والتصفيات العرقية.

المؤسف أن الجاذبية لدى العوام التي يمارسها هؤلاء «العباقرة» على أنهم مفوضون من قوة أعلى، ليست جديدة في التاريخ البشري، فهي تجد قبولها في عقول الدهماء وناقصي المناعة المعرفية، وفي غياب رأي آخر تقفل دونه، بآلية قمعية شرسة، طرق التعبير عن نفسه، وتجعل من أعمال العنف أعمالاً «وطنية»! لعل مشهد عمر البشير، وهو يرقص بعصاه فيما يمكن أن يسمى مأتم الأرامل، وهو محاط بمناصريه، يفسر اللامبالاة التي تشيع في أذهان العامة أمام تلك الأفعال الشيطانية في ذويهم وبني جلدتهم. المذهل للعاقل أنه لا يتحرك الشعور الإنساني الطبيعي في نفوس أولئك الذين يقتلون المتظاهرين في بغداد أو يمطرون المسالمين من طائراتهم ببراميل متفجرة في سماء قرى ومدن سوريا؛ حيث لا يرمش جفن عندما يبدأ الغول في افتراس أبنائه!! لعل من الناجع عند تسليم عمر البشير للمحاكمة أن تفهم جماهير عربية عريضة أن بناء الدولة الأخلاقية العادلة هي من أولويات مشروع النهضة، وأنه لم يعد الاستمرار في قبول ازدراء كل قيم الحياة البشرية من أجل كراسي الحكم أو مشروعات حكم خيالية ليست لها علاقة بالواقع؛ إذ تفتك بالجسم الواهن، المحروم من أي ثقافة سياسية، وتكثر فيه كتائب السفاحين.

آخر الكلام:
لا محل للحياد مع الحق، والحق ناتج عن معايير العدالة المتعارف عليها دولياً.