ليون برخو

لم يكن الأثرياء في العالم هدفا للنقد مثل ما هم عليه اليوم. رغم أن العالم لم يخل منهم منذ قديم الزمان، بيد أن ثرواتهم ونشاطاتهم حتى حياتهم الشخصية صارت في عصرنا هذا جزءا من السردية العامة، ليس في الإعلام فحسب، بل على مستوى الأفراد العاديين.
هناك مؤشرات عديدة إلى قياس الثروة وتحديد الذين يستأثرون بها -دولا، شركات أو أفرادا-. وتكديس الثروة ركن من الأركان الأساسية للنظام الرأسمالي. تراكم الثروة حالة إيجابية ودليل على الرخاء.
والنظام الرأسمالي يرى أيضا أنه لا ضير أن تنحصر الثروة في أياد قليلة، لأن الغني يريد أن يزداد غنى والطريق إلى الوصول لهدف مضاعفة ثروته هو تشغيلها ومن خلال عملية التشغيل هذه تنساب النعم إلى المجتمع.

وأن تصبح ثريا هو الحلم الأمريكي بذاته American Dream الذي بموجبه على الكل التسلق في مضمار تكديس الثروة والنجاح من خلال العمل الشاق والتضحية وتحمل المجازفة والمخاطر لتحقيق هذا الهدف.
ويختلف الموقف في فضاء النظام الرأسمالي حول الثروة. أغلب النقد للأغنياء يأتي من علماء الاقتصاد والباحثين والإعلاميين في أوروبا الغربية، خصوصا دول الرفاهية في شمالها التي هدفها المساواة.
أما في أمريكا، فإن الثروة مقدسة وهناك تباه وافتخار بأصحابها الذين يتحولون إلى أساطين أو مشاهير يهلل ويصفق العامة لهم، وهم يتباهون ويتمادون في الكشف عن ثرواتهم وأرصدتهم وقصورهم وأملاكهم وسياراتهم الفارهة وغيرها.
لا بل قد يصبحون قدوة ليس لأغنياء المستقبل بل حتى للناس العاديين لكونهم حققوا الحلم وتسلقوا سلم الثروة. وأكثر الكتب مبيعا هي التي يؤلفها الأغنياء ويشرحون فيها كيف استطاعوا الوصول إلى ما هم عليه من ثروة فاحشة.
وتقع مهمة مراعاة الأثرياء وتلبية مطالبهم وسن تشريعات لمصلحتهم وحماية ثروتهم في صلب التشريعات في أمريكا. وكثير اليوم يعزو متانة الاقتصاد الأمريكي حاليا وسطوة العملة الأمريكية إلى السياسات الضريبية للإدارة الحالية التي خفضت الضرائب على الأثرياء.
النظرة التي فيها يرى الناس والمؤسسات الأثرياء في أمريكا والسرديات التي يتم من خلالها توصيفهم حميدة في الأغلب. مظاهر الثراء في أشكالها المختلفة ترقى إلى ما ننسبه إلى الفطرة السليمة في المجتمع الأمريكي، حتى وإن رافقتها مظاهر فقر مدقع.
الأمر ليس هكذا في أوروبا الغربية بصورة عامة ودول أوروبا الشمالية، المعروفة بالإسكندنافية، بصورة خاصة.

لو أخذنا السويد مثالا، فإن الناس تنظر إلى الثراء بمنظار مختلف تماما عن النظرة في أمريكا. وهذا الموقف ينطبق على الذين يقعون في خانة الثراء أو خارجه.
الأثرياء في السويد في الأغلب يتجنبون مظاهر البذخ ويعزفون عن الظهور العلني الذي يشي بثرائهم. هناك أثرياء ومن الطراز الثقيل في هذه الدول، لكنهم بصورة عامة يتعمدون البساطة وتقريبا في كل شيء من المأكل والملبس والسلوك والتصرف وغيره.
ومن ثم، فإن الناس في هذه الدول تكترث كثيرا إن كشف شخص علانية أنه يختلف عن الآخر لكونه ثريا أو أرفع شأنا. الناس تنظر بازدراء إلى السيارات الشخصية الكبيرة أو الفارهة التي تجوب الشوارع رغم ندرتها.
والدولة لأنها تسعى إلى رفاهية المجتمع وترى في المساواة ركنا من أركان الرفاهية، فهي تبحث عن الفرصة الملائمة تقريبا للكل للتمتع بمزايا مجتمع الرفاهية، حتى إن خانتهم هذه الفرصة أو كانوا هم سببا في ضياعها.

من حق المرء أن يحقق حلمه، أي أن يرتقي السلم صوب الثراء من خلال الكد والجهد والسهر، بيد أن تراكم الثروة له ثمنه ويبدو أن الأثرياء في هذه الدول يدفعونه وبشفافية ودون تململ.
والدولة تحقق العدالة والمساواة من خلال سياسة ضريبة عادلة؛ عادلة بمعنى أنها تقسو على الأغنياء كي تأخذ منهم ما تراه حق الفقراء في ثروتهم.
ولتحقيق العدالة أو بالأحرى الشفافية، تضع الدولة سقفا للرفاهية التي يختلف مداها وتعريفها من بلد إلى آخر. وهذا السقف يأوي الكل ويستحقه الكل بغض الطرف إن كانوا أثرياء أو غيره، أو حصلوا على فرصتهم في العمل أو التعليم أم لا.
وأول هدف للدولة هو حماية هذا السقف من الانهيار، وهذا يعني ضمن جملة ما يعنيه من الأمور رفع الضريبة ولا سيما على الأغنياء لتمويل رفاهية المجتمع ككل.

وهكذا لو كنت من أصحاب الملايين أو مليارديرا أو كنت تعيش على الكفاف ضمن سقف الرفاهية، فإنك تستحق الخدمات العامة المجانية من التعليم والصحة والتقاعد وغيره.
وضع الأغنياء تحت حكم ضريبة قاسية وسد الطرق في وجه التهرب الضريبي هو عماد الرفاهية والنمو الاقتصادي في هذه الدول، عكس ما ترغب فيه الرأسمالية الأمريكية.
ولم يكن من الغرابة في شيء أن تكون دول شمال أوروبا ومجتمعاتها أكثر قبولا لطروحات عالم الاقتصاد الشهير توماس بيكيتي في كتابه ذائع الصيت: "رأس المال في القرن الـ21" التي تقدم دليلا بعد آخر على أن تكديس الثروة لدى قلة من الناس دون حساب ستكون له عواقب وخيمة على العالم.

بيع من الكتاب الثخين هذا -نحو 1000 صفحة- المليء بالجداول والإحصاءات والرسومات البيانية أكثر من مليوني نسخة ونصف النسخة.
بيكيتي صار بمنزلة أيقونة في دول شمال أوروبا بينما أطروحاته لم تلق أذانا صاغية في أمريكا.