علي القحيص


جاء المشهد المهيب الذي ظهر فيه الشعب الجزائري أثناء تشييع قائد أركان الجيش الشعبي الجزائري الذي توفي أواخر العام الماضي، ليقلب بعض التصورات المترسخة في بعض الأذهان حول دور القادة العسكريين والنظرة إليهم في الحياة العامة. لقد ودّع الجزائريون رئيس أركان جيشهم الفريق أحمد قايد صالح بالدموع والورود، وليس كما تمنى البعض من أعداء المؤسسة العسكرية في البلاد العربية.

ونادراً ما حدث في التاريخ أن خرج الشعب العربي بالملايين وبكل فئاته، لتشييع جنازة قائد عسكري بهذه الطرية الرائعة والمفرحة والمريحة. فقد توافد جموع المواطنين الجزائريين على العاصمة من كل المدن، حتى باتت المدينة على اتساعها ضيقة مزدحمة، تقديراً لسيرة ذلك الرجل النظيف الذي أشرف على انتقال للسلطة، سلس ومريح ومن دون قلاقل.

ولأنه ببساطة وقف إلى جانب الشعب وانحاز إليه لما كان الحكم في تلك المرحلة بيد الرئيس بوتفليقة، ورفض إيقاف التظاهرات بالرصاص الحي وبالقوة، لذلك رد الشعب الجزائري الجميل لهذا الرجل الأمين المخلص، الذي رفض استخدام القوة المفرطة ضد جموع أبناء بلده، حيث قال قولته الشهيرة: «لن أسمح أن تراق قطرة دم جزائري واحدة في البلاد»، وأمر كل القوات أن لا تحمل معها أي ذخيرة حية، وبأن تحمي المتظاهرين والمعتصمين والمحتجين من أي ضرر أو أذى، ثم قال: «لم يقتني الجيش أسلحته المتطورة ليوجهها لشعبه، وإنما لحمايته، فهو خادم الشعب وحاميه من الأخطار الخارجية، ولا نوجّه أسلحتنا إلى صدور أبنائنا».
لقد خرج الشعب الجزائري مودعاً الفريق قايد صالح، لأن الرجل وقف في وجه المؤامرات الخارجية وضد عرابي نظريات «حكم العسكر»، الذين أرادوا بحملاتهم توقيف المسار الديمقراطي المدني، ومنع وصول الجزائر إلى بر الأمان من خلال انتخابات ديمقراطية، لكي تظل تتخبط في أزمة لا نهاية لها، كما يحصل اليوم في العراق مثلا، وما يشهده من فراغ دستوري وسياسي يوشك أن يغرقه في الفوضى ويتجه به نحو التيه والهاوية.

لقد أدرك الفريق قايد صالح، ومن معه من ضباط ومسؤولين، حجم المسؤولية الوطنية والاجتماعية الملقاة على عواتقهم، فتحمّلوا الضغط وأقسموا جهد أيمانهم أن الانتخابات ستتم وأنه لا أطماع للجيش في السلطة، فسنّوا قانوناً صودق عليه في البرلمان يمنع العسكريين من الترشح للمناصب السياسية أو الاستيلاء على السلطة بالقوة.. لكي يبقى القرار حراً خالصاً للشعب الجزائري وحده، والذي هو مَن يقرر ويختار مَن يحكمه ويرأسه ويقود البلاد إلى بر الأمان.
لذا لا غرابة إن ودّع الجزائريون ذلك القائد العسكري بهذا الشكل المهيب، والذي يليق بمقامه وتاريخه وسيرته، وبإخلاصه لله وللوطن وللشعب.. كما أقسم أول مرة عندما التحق بالجيش ضابطاً ليخدم وطنه بشرف ومهنية وأمانة وتفان وإخلاص، وهذا ما عمل عليه ووفى به، رحمه الله تعالى، ليصبح رمزاً وطنياً جزائرياً يشار إليه ويذكر في صفحات التاريخ.