نسيم الخوري
سقط اللبنانيون في الكوارث النقديّة والماليّة والاقتصادية الشديدة التعقيد، ولمعت نجوم الشاشات بالخبراء الذين لم يكن اللبنانيون يسمعون بهم. بانوا لاهوتاً جديداً ظهر ليخلّصهم من الانهيارات، إذ لهم وحدهم لغتهم وشرعة الحقائق، عبر تحليلاتهم وقراءاتهم المتناقضة والمعقّدة بمحيط هائج من استبدادية الأرقام والنسب. بالمقابل، تراجع السياسيون نحو أقفاص الاتّهام، فالنائب والوزير والحزبي بات يخاف لو ظهر بين الناس في مقهى أو مطعم أو فندق، لأنّ «الثوّار» يداهمونه، بسرعة البرق، ويشتمونه ويطردونه ويعتدون عليه.
التصق زمن الناس بالشاشات، إذ برز «نجومها» وكأنّهم قادة ما سمّي مبالغةً ب«الثورة»، مع أنّ خمسة شهداء سقطوا حتى الآن، ومئات الجرحى البالغو الخطورة لدى تصادم قوى الأمن مع المتظاهرين. هناك 450 فصيلاً «ثورياً» في الساحات، وفي انتباهات الناس، يرفضون أن يتجرّأ أحد أو مجموعة من الأشخاص أن يمتطي «ثوراتهم» بصيغة الجمع. بقيت القيادة مبهمة وبعيدة حتّى الآن، ما أدخل الجميع في تقاذف الاتّهامات والتلفيقات التي فاقمت الضياع العام إلى حدود القول بالمؤامرات والأصابع الخارجية، بما عزّز التحليلات والأفكار المشوّشة، وكأنّ لبنان وحيد في جزيرة منعزلة عن الدنيا. استفقنا من ضياعنا لنقع في أفخاخ المؤسّسات الدولية، وأمامنا جميعاً سؤال وحيد:
هناك استحقاق مليار ومئتي مليون دولار، وجيوب الخزينة والمصارف شبه فارغة. إذاً؟ نسدّد فنحافظ على صورتنا البهيّة، أو لا نسدّد فنفقد ثقة العالم بنا. من يملك الإجابة واللبنانيون الحزبيون يتجمّعون مجدّداً أمام حظائر 8 و14 آذار، بينما الصوت الصارخ يقول ب«الثورة» في وجه كل الطواقم السياسية والحزبية التي عرفها اللبنانيون منذ 1992.
وهنا ملاحظة اعتراضيّة: وضعت «الثورة» بين قوسين، لا لعدم الاعتراف بها، بل للتنبيه لمحمول المصطلح من الأعباء الدموية والخرائب في تواريخ الدول والشعوب، وقد خبرناها، ولذلك أجدني أميل إلى «الحراك» أو «الانتفاضة» أو تسمية «العاميّة الكبرى الثانية»،
وخصوصاً أنّ 100 سنة هو عمر العاميّة الأولى، نستعيدها بذكر إعلان دولة لبنان الكبير 1919 الذي أعاد وطننا موحّداً بكلّ فئاته وطوائفه وتقسيماته إلى حدوده الطبيعية والتاريخية التي لطالما سلختها عنهم دولة بني عثمان، بعدما فتك بهم الجوع الذي يستيقظ، للمفارقة الكريهة، في حناجر اللبنانيين ويستيقظ أو يتجدّد القفز فوق الحدود، في قفز أردوغان المدان نحو البحر الأبيض المتوسط، واهماً أنّ القفز في الملاعب الرياضيّة مشابه للقفز في الملاعب الدولية.
وقع اللبنانيين، إذاً، في مناخات الخبراء الماليين والاقتصاديين على اختلاف مشاربهم وقدراتهم واحترامهم، لكنهم حجبوا الرؤى، إذ صادروا إمكانيّة مناقشاتهم أو تصويب آرائهم التي زادت الحياة ثقلاً وتعقيداً، وكأنّ تلك الثقافة العلميّة التي تتطلّب التخصّص والاختصاص أوقعتهم في نشوة الانبهار التلفزيوني من أجل المعرفة بما لم يقدهم نحو التساؤل حول أنفسهم وسلطاتهم وتجاوزاتهم، وعدم رحمتهم لما يعيشه الناس. تؤدّي ظاهرة الخبراء إلى درجة «عبادة» الخبير وسماعه والتحيّز له أو رفضه من دون فهمه بالكامل. صار لبنان محكوماً بما يشبه الشريعة البيزنطية، وأجناس الملائكة والخبراء يتنافسون بقوّة آرائهم وتناقضاتهم بكلّ الأمور، وكأن أحلام التغيير مقيمة في فلك منح قيادة الدولة للاختصاصيين والخبراء الذين يشغلون الزوايا والأرجاء. كان لا بدّ من توثيق أسماء معظمهم للإجابة عن السؤال:
أين يقع لبنان اليوم؟: يقع في مداخلات وتحليلات العديد من الخبراء والمحللين الاقتصاديين والماليين، من دون الخوض في أسمائهم وهم بالعشرات.
ويقع في زاوية الصمت المطبق للسلطات الرسميّة، ويقع عند الإعلاميات/الإعلاميين خريجي كليّة الإعلام الذين يمطرون الخبراء بالأسئلة المتلعثمة، بما يعيدني مجدّداً من التقاعد إلى الجامعة، لتدريس «فنون المقابلة الصحفية»، بعدما بانت المسافات شاسعة بين الأسئلة والأجوبة.
يضيع الناس في لبنان؟ نعم. لماذا؟
أجاب إدغار موران في الصفحة 64 من كتابه Penser l'Europe بالقول إنّ الخبراء قادرون على حلّ مشكلات عرفناها في الماضي، لكنّهم يعجزون أمام مشكلة جديدة، ولأنّه في نهاية الحكم السابق للثورة الفرنسية، عجزت الجامعات ال22 من المشاركة فعليّاً أو مجاراة الحركة العلميّة التي بدأت في القرن ال16 والتي أفضت إلى عصر الأنوار.
وبالحرف قال: «إنّ التخصّص المفرط المعمّم يؤدّي إلى الغباء الإيديولوجي المعمّم».
التعليقات