سام منسى

التطورات المأساوية في إدلب تكذب مجدداً ادعاءات الرئيس بشار الأسد بأن الحرب قاربت نهايتها مع سيطرته على 90 في المائة من الأراضي السورية، وما من دليل أكبر على تهافت هذا الادعاء سوى حجم المأساة الإنسانية التي يعيشها الشعب السوري، قتلاً وجوعاً وتعذيباً وتشرداً مع موجة النازحين الجديدة الذين انسلخوا عن أرضهم وبلغ عددهم نحو تسعمائة ألف سوري، والعدد إلى ارتفاع بحسب التوقعات. هذه المأساة تذكر بحقيقة مؤلمة تجلت منذ بداية الحرب السورية عنوانها الرئيسي هو اللامبالاة الدولية والإقليمية إزاءها.
إن المحطة الجديدة من الحرب التي تتمثل بالهجوم الذي يشنه النظام بدعم من روسيا لاستعادة منطقة إدلب، تدفعنا إلى التفكير حصراً بأدوار لاعبين أساسيين اثنين على الساحة السورية؛ هما روسيا وتركيا، وبتناقضات وحدود العلاقة بينهما رغم التحسن الكبير الذي شهدته خلال السنوات الأخيرة. فما يجري يشير إلى أن هذه العلاقة ليست سوى نتاج الواقعية السياسية والبراغماتية والسخط المشترك من الغرب، وأن نيران العداء التاريخي بينهما لم تخمد بعد.

أهم ملامح السياسة التركية إزاء الأزمة السورية وأكثرها وضوحاً تتمثل في الفجوة الكبيرة بين الخطاب الحاد على المستويات كافة والأفعال على الأرض! فالملاحظ أن حدة تهديدات تركيا لنظام الأسد ووتيرتها المتصاعدة لم تنقطع أو تهمد يوماً، لكنها عجزت على أرض الواقع من تحقيق أي من توعداتها. ونشير هنا ومن باب الأمانة، إلى بعض العوامل التي منعت تركيا من ترجمة مواقفها إلى أفعال، أبرزها موقف الرئيس الأميركي باراك أوباما من الحرب السورية الذي تميز بالغموض والتردد، وبقي محكوماً حتى نهاية ولايته بهاجس إرضاء إيران لتوقيع الاتفاق النووي معها، فأدركت أنها لن تجد أي سند لها في حال قيامها بعمل عسكري ضدّ نظام الأسد. أضف إلى ذلك الموقف الأوروبي وموقف حلف شمال الأطلسي غير المشجعين أيضاً، ونتذكر هنا كيف تُركت تركيا وحيدة في مواجهة روسيا إثر حادثة إسقاط طائرة روسية عام 2015.

وحتى يومنا هذا، وفي خضم المعركة الدائرة في منطقة إدلب، لا نزال نسمع تهديدات تركية كثيرة تصطدم فيما تصطدم بعدم رغبة إردوغان في تقديم ضحايا على المذبح السوري لاستعادة المناطق التي يريدها. بداية، ما دفع تركيا إلى التدخل في الحرب السورية هو طموحات إردوغان الشخصية بتبني ثورات الربيع العربي، ورغبة أنقرة في الاستبدال بنظام الأسد نظاماً آخر أقرب إليها آيديولوجياً واستراتيجياً، والحد من الخطر الكردي.
مع دخول روسيا الحرب إلى جانب النظام وموجة اللاجئين السوريين الكبيرة التي اضطرت أنقرة إلى استقبالهم، ودعم أميركا للأكراد في سوريا، قلصت تركيا طموحاتها لتنحصر في تأمين سيطرة الفصائل المسلحة الموالية لها على أكبر مساحة ممكنة من الأراضي السورية، ليكون لها دور في رسم مستقبل البلاد، وفي إنشاء منطقة آمنة لغايتين: إبعاد التهديد الكردي عنها (وهذا أيضاً من أسباب توتر العلاقات بينها وبين الولايات الأميركية، في مرحلة ما وجنوحها باتجاه موسكو)، وتأمين منطقة آمنة تجمع فيها ملايين اللاجئين الموجودين في الداخل التركي لتخفيف هذا العبء عنها.

يوشك تقدم النظام في إدلب بدعم روسي على الإطاحة بهدف تركيا الأول، وبات مخرجها الوحيد هو اتفاق جديد مع روسيا، بدلاً من اتفاق آستانة لإقامة المنطقة الآمنة، مع التشكيك في قدرتها على جعلها منطقة يحظر الطيران فوقها. وقد تعطيها روسيا ذلك، لا سيما بعد سيطرتها على أهم المواقع في إدلب بما فيها الطريقان السريعتان الاستراتيجيتان «M4» و«M5».
أما سياسة موسكو السورية، فتميزت بخلطة فريدة من فقدان المصداقية وهشاشة التحالفات وقصر النظر. كان هدف روسيا ولا يزال تعويم نظام الأسد، وجعله يسيطر على أكبر مساحة ممكنة من الأراضي السورية، بحجة الحفاظ على وحدة البلاد، وهي بصدد تحقيق ذلك في معركة إدلب على حساب اتفاق مناطق خفض التصعيد، التي اختفت بأكملها وبواسطة استعمال القوة المفرطة بحق المسلحين والمدنيين على حد سواء، بات معه جلياً أن المقصود هو إفراغ المنطقة من سكانها.
يحق لنا هنا السؤال عن ماهية الدور الذي تلعبه روسيا والمصداقية الدولية لمؤتمرات سوتشي أو آستانة في ظل الإطاحة بمقرراتها الميدانية العسكرية وعدم إحراز أي تقدم في السياسية منها. هذا إضافة إلى عدم احترامها لتعهدات قطعتها لإسرائيل بإبقاء الوجود الإيراني في سوريا بعيداً عن حدودها.
وإلى جانب تلاعب موسكو مع حليفها التركي من باب دعم اللواء حفتر في ليبيا للضغط عليها وقطف الثمار في سوريا، تجلت هشاشة تحالفاتها أكثر ما تجلت بموقفها من العمليات العسكرية الإسرائيلية المتواصلة ضد الوجود الإيراني في سوريا الذي اقتصر على التنديد. يوحي المشهد بأن روسيا لا تمانع قصقصة أجنحة إيران في سوريا، متحاشية في الوقت عينه حمل المقص بنفسها.
لكن ورغم كل الوهن الذي يُعتقد أنه أصاب الدور الإيراني في سوريا، لا سيما بعد مقتل قائد فيلق القدس قاسم سليماني وضغوط العقوبات القصوى التي تتعرض لها واندلاع مظاهرات في لبنان والعراق منددة بتدخلاتها، لا تزال إيران عاملاً موجوداً وأساسياً في الأزمة السورية بخلاف ما يعتقده الكثيرون، وعلى رأسهم موسكو.

إن قصر النظر الذي اتسمت به السياسة الروسية في سوريا يصح معه وصفها بأنها تكتيكية أكثر منها استراتيجية، بمعنى أنها تسعى دائماً إلى حلول تعرف أنها غير قابلة للعيش طويلاً، ومع ذلك تروج لها على أمل أن يكون مردودها سريعاً. أكبر مثال على ذلك المبادرة الروسية لمعالجة أزمة النازحين في لبنان والتي تبخرت عن بكرة أبيها.

يمكن القول ونحن على مشارف السنة العاشرة من الحرب السورية، إن النجاح الروسي اقتصر على إعطاء الأسد زخماً ليستمر في المشهد ويبقى في الصورة، لكنها لم تستطع تعويمه والدفع بالمجتمع الدولي إلى قبوله مجدداً، كما لن تستطيع الإبقاء على الدولة السورية. فأي دولة هذه ونحن اليوم نتحدث عن أكثر من 6 ملايين لاجئ سوري موزعين بين تركيا والأردن ولبنان، مضافاً إليهم النازحون في الداخل، ويمكن القول إن نصف الشعب السوري تعرض للقتل والتهجير والسجن والخطف وروسيا تسوق هذه المأساة على أنها نتيجة عرضية للحرب ضد «داعش» والإرهاب. وعلى الخلفية نفسها، تشنُّ اليوم هجوماً همجياً ضد إدلب هو في الواقع وبعيداً عن الشعارات موجه ضد ثلاثة ملايين إنسان حشروا في هذه الزاوية ويراد اليوم نقلهم إلى المجهول.
مع كل ذلك من المرجح أن تستمر العلاقة النفعية بين تركيا وروسيا، إذ لا تستطيع الأولى التحرر من الثانية بسبب دورها الحاسم في سوريا، وبعدما ذهبت بعيداً في خلافها مع أميركا والناتو، ولن تدفع الثانية بالأولى إلى الحضن الأميركي مجدداً وتحتاجه كحليف غير صديق للنظام.

مأساة الشعب السوري أنه ضحية انعدام السياسة بكل معانيها من الأطراف كافة، لا سيما الأميركي والروسي، أما خلافات «حلفاء» الثورة وخلافات فصائل الثورة السورية كانت أكثر قسوة وإيلاماً من عنف النظام وحلفائه.