عبد الرحمن شلقم

ما زالتْ كلمتَا اليمينِ واليسارِ تطوفان في ملاعب السياسة والثقافة، محلياً ودولياً. صفة تُعلَّق على رؤوس متصدري المشهد الحزبي والحكومي والسياسي بصفة عامة. ذهب الزمن والرجال الذين صنعوا الكلمتين في حدث عفوي بوقت مفصلي في تاريخ التحولات الإنسانية الكبيرة. كان ذلك في خضم الثورة الفرنسية، عندما اجتمع أعضاء الجمعية التأسيسية في عهد لويس السادس عشر في جلسة لتحديد صلاحيات الملك. جلس المطالبون بتحديد صلاحياته إلى يسار القاعة، في حين جلس المؤيدون له إلى اليمين، وهكذا وُلِدَ تعبيرٌ سياسيٌّ عفويٌّ في سنة 1789 بفرنسا. رحل ذلك الزمن والناس، وبقيت الكلمات التي لا ترحل، وتعيد إنتاج ذاتها عابرة للقارات والزمن والأجيال.

كان اليسار حمَّالاً لمفاهيم وتوجهات وشعارات سياسية واجتماعية، له ألوان تتنقل من عصر إلى آخر. الاشتراكية بكل تفاصيلها السياسية والاقتصادية والثقافية كانت الرافعة العالية لمصطلح اليسار. تعدَّدت التنظيمات التي تبنتها، ومع مرور الزمن وامتدادات المكان أنجبت تفاصيل متنوعة، وفي كثير من الأحيان متضاربة.
بعد ظهور الشيوعية، وإقامة أول كيان سياسي لها في الاتحاد السوفياتي، تمدد الفكر الذي هيمن عالمياً على مفهوم اليسار. كان المضمون هو القضاء على الاستغلال، وتحقيق العدالة، واستعادة حقوق العمال الذين ينتجون بجهدهم ما يستحوذ على قيمته الحقيقية أصحاب رؤوس الأموال، ولا بد أن تكون وسائل الإنتاج مملوكة للعمال عبر سيطرة الدولة عليها. الأممية الشيوعية جعلها حكام الكيان السوفياتي شعاراً وتنظيماً استوعب القوى المؤمنة بحتمية القضاء على الرأسمالية، وإحلال الاشتراكية مكانها، والثورة هي الوسيلة لتحقيق هذا الأمل الذي انبثق من فلسفة ماركس وإنغلز، ووضع له لينين الخريطة العملية لتكريسه على الأرض. لكن العنف والدم الذي رافق تلك الرحلة ظلَّ لصيقاً بالفكر والتطبيق، وصدق عليه القول: «نبدأ بطلب العدالة، وننتهي بتشكيل جهاز للشرطة». منذ بداية العقد الثالث من القرن الماضي، انتشرت التنظيمات الشيوعية في كثير من دول العالم، كثير منها عبأ قوته لمقاومة الاستعمار، رافعاً شعار الحرية للوطن، وتحقيق العدالة للمواطن، بالقضاء على الاستغلال والإقطاع. كانت الأمية تغشى آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، بل حتى أجزاء من أوروبا، وخاصة الشرقية، فكانت الشعارات والحماسة هي اللغة التي تهيج العامة، ويجد الشيوعيون الوسط البشري الذي يمكنهم من تحريك الجماهير التي تعاني من العوز والاستغلال. لكن مصطلحاً آخر برز مع الزمن لينافس الشيوعية، وهو الاشتراكية التي تلتقي مع الشيوعية، وتختلف معها في الوقت ذاته. تبعية الأحزاب الشيوعية للاتحاد السوفياتي، وكذلك قضية الدين، وغيرها من التباينات، أسس لمسافة بين التيارين، ولكن مصطلحاً قديماً ولد في القرن الثامن عشر في خضم الثورة الفرنسية، وهو اليسار، استعيد ليجمع التيارين الاشتراكي والشيوعي.

في البلاد العربية، تأسست أحزاب شيوعية منذ عشرينات القرن الماضي، في فلسطين ومصر والسودان وسوريا ولبنان، وكانت مرتبطة بموسكو، فكراً وسياسة. خاضت تلك الأحزاب، مع غيرها من القوى، معارك الاستقلال، وكذلك مواجهة المشروع الصهيوني لإقامة دولة في فلسطين. الاتحاد السوفياتي فتح جامعاته للطلاب العرب لدراسة الآداب والفنون والطب والتقنيات، وعاد هؤلاء الطلاب إلى أوطانهم، وحمل بعضهم معه الشيوعية، فكراً وتنظيماً وثقافة، وكان من بينهم كتاب وأدباء وشعراء ترجموا الأعمال الأدبية من الروسية إلى العربية. انقسام الشيوعيين في الصين والاتحاد السوفياتي وجد أثراً له في العالم العربي، لكن الجناحين لم يصل أي منهما إلى السلطة سوى في اليمن الجنوبي.
في خمسينات القرن الماضي، وبعد ثورة يوليو (تموز) في مصر، وانقلاب عبد الكريم قاسم في العراق، وبروز حزب البعث، دخل مفهوم اليسار إلى الحلبة العربية، خاصة مع ظهور حركة القوميين العرب، وهيمنة القضية الفلسطينية على التيارات السياسية العربية، ونشوب صدام نظري وحركي بين هذه التيارات. هزيمة حرب يونيو (حزيران) هزَّت كلَّ شيء، وانهالت الأسئلة، وهجم كل المسكوت عنه شاخصاً أمام النخب، بل تعداها إلى دوائر العامة من الناس. تهاوت كثير من الأفكار، وغابت الشعارات التي كانت في يوم ما تملأ وعاء العاطفة.

تحرك كل شيء في كل مكان، وانهار الاتحاد السوفياتي، ودخل العالم في دنيا القطب الواحد الغربي الرأسمالي، بزعامة الولايات المتحدة، وغاب في العالم العربي ما كان يسمى اليسار إلى حد كبير. السؤال الذي يمكن أن يُطرح: هل كان هناك يمين عربي مقابل لليسار؟ بعيداً عن المفاهيم والآيديولوجيات السياسية، كان الخطاب اليساري يُنتج في حلقات نخب حزبية تقافزت إلى دوائر النشاط السياسي، فكرياً وتنظيمياً، ولم ينسب إلى حلقات العامة من الناس، في حين كانت الغالبية الساحقة من فئات الشعب تعيش في موروث اجتماعي وديني أنتج منظومته القيمية الراسخة غير المستوردة. الأنظمة العربية التي أطلق عليها بعض اليساريين صفة المحافظة والرجعية والتقليدية لا يمكن تصنيفها موضوعياً باليمين، فقد وفر أكثرها فرصاً للتعليم والخدمات الصحية وإنجاز البنى التحتية. وفي الوقت الذي كان بعض من يسمون أنفسهم التقدميين اليساريين يهاجمون الرئيس التونسي الأسبق الحبيب بورقيبة، ويصفونه باليميني والرجعي، كان الرجل يقود تغييراً اجتماعياً في تونس شمل كل المجالات، في حين تقاتل القادة اليساريون في اليمن الجنوبي على السلطة، والبعثيون في العراق وسوريا حارب بعضهم بعضاً، وصفوا رفاقهم. الخلاصة، كانت وصفة اليمين واليسار في البلاد العربية مستوردة ومغالِطة، ولم تزد عن كونها مادة مضافة إلى سلة معركة التيه في شعارات بلا مضمون.
اليوم، هناك دنيا جديدة بأناس جدد لا ينقادون إلى نخب تصنف نفسها. في عصر انتشار التعليم والإعلام، واتساع واقع الذاتية الفردية التي يحدد كل فرد فيها خياراته، تغادر الزمان والمكان قاعة الجمعية التأسيسية الفرنسية، بيمينها ويسارها، بكل ما حملته عبر التغييرات التي شهدها العالم، لتحل مكانها تكوينات سياسية وفكرية يبدعها الناس دون توقف في كل الدنيا التي صارت قاعة بلا يمين أو يسار.