هاني سالم مسهور

ثلاثة عقود، ومدينة عدن تنهشها تيارات «الإسلام السياسي»، ونكرر تنهشها ولا تتجاذبها أو تحاول استقطابها، فالمسألة في عدن تتمثل في صراع يقوم على كينونة ما تمثله هذه المدينة من قيمة نشأت عليها منذ نشوئها السياسي عام 1839، عندما استعمرتها بريطانيا العظمى وحولتها إلى مدينة، وإن امتلكت إرث الشرق، فإنها تحولت لأيقونة الغرب على مدى عقود تاريخية.

قرنان من التاريخ، تلازمت عدن والليبرالية بمفاهيمها البسيطة والمُركبة، متلازمة أصيلة غرستها المدرسة المذهبية الحضرمية بوسطيتها الشافعية، وعلى مدى ما لا يقل عن مائتي عام تعمقت في عدن روح المدنية، حتى مع وجودها بين مشيخات وسلطنات حكمت الشريط الساحلي من الجزيرة العربية، ولعل هذا ما عززته بريطانيا، من خلال استعمارها لمدينة عدن، أو من انتدابها للمحميات الشرقية والغربية، في حقبة تاريخية أسهمت بقوة في تكريس الحياة المدنية بتطبيق القوانين في عواصم السلطنات والمشيخات التي كانت قائمة.
في الفترة من 1910 وحتى 1965، تحولت المستعمرة عدن إلى واحدة من أهم وجهات العالم، أي أن مدينة عدن، وخلال الحربين الأولى والثانية، كانت تحظى بتنمية جعلتها واحدة من أهم المستعمرات البريطانية، والواجهة الأكثر إبهاراً في المستعمرات البريطانية في الشرق، لذلك زاحمت عدن آنذاك عواصم عربية كالقاهرة ودمشق وبيروت وبغداد، برغم أن مصر وبلاد الشام شهدت على مدار قرون حضارات تعاقبت عليها، كانت هي الأساس في التكوين الحضاري لها، بينما كانت عدن معزولة، بحكم موقعها الجغرافي خلال الحضارات الإسلامية.

عدن، ومنذ نهاية القرن التاسع عشر، تحولت إلى ما يمكن أن تكون المدينة الاستثنائية في الشرق، فعلى عكس ما كان مألوفاً في الهجرات الحضرمية تجاه الشرق والوسط الآسيوي، كانت عدن تذوّب الآلاف من المهاجرين إليها، وتحولهم إلى مواطنين، برغم تنوع الثقافات الواصلة إليها، من الهنود والصينيين والأفارقة والمصريين والسوريين والعراقيين، وحتى عرب الجزيرة، تشكلت فسيفساء عدن.
كتب حاكم عدن، السير «توم هيكنبوم»، في مذكراته: «عندما جاءت جلالة الملكة إلى عدن شعرت كما كنا نشعر تماماً، أن في هذه المدينة سحراً أبدياً، شاركنا في صناعته باهتمام، حتى تحولت مصدر فخر لبريطانيا العظمى»، هذا التوهج البالغ للمستعمرة البريطانية كانت استثناءً في ذلك الوقت من الزمن، التذويب في عدن كان سريعاً ومذهلاً للغاية، البنية التحتية للمدينة لم تكن في شوارعها ومبانيها، بل كانت في فنونها وطبائع أهلها، وبذلك تأسست هوية حضرية مستقلة فريدة للغاية بين هويتين ضاربتين في جذور التاريخ الحضرمية واليمنية.

واحدة من أهم أسباب التعايش الإنساني، أن البريطانيين ساهموا بغرس الأفكار الليبرالية في عدن، ومع الاحتفاظ بالبعد المذهبي الشافعي بالتقاليد الحضرمية، كانت عدن تشكل نمطيتها وسلوكها الذاتي، المدنية كأسلوب حياة مدنية كرست الليبرالية كمتصرف في الحياة العامة، هذا الخط قاد عدن نحو استقلالية، أكدت في أنه من الممكن تحويل المجتمعات العربية لبيئات يمكنها التعايش بسلام وأمن، وعلى رغم احتدام التدافع التجاري بين الصينيين والبريطانيين والهنود، إلا أن المستعمرة حظيت باستقرار مشهود.
حتى ما بعد الاستقلال في نوفمبر 1967، ظلت عدن محتفظة بالبُعد الليبرالي، مع مستجد طارئ تمثل في الدخول القبلي على المدينة، الحقبة اليسارية في ثلاثة عقود، نجحت في تحصين عدن والجنوب من تسلل التيارات الإسلامية المتطرفة، خاصة أن تحولاً حاداً قد حدث مع الثورة الإيرانية في 1979 وحرب أفغانستان، وشكل انهيار الاتحاد السوفييتي منعطفاً هاماً، معه اضطر الجنوب للدخول في وحدة اندماجية مع الجمهورية العربية اليمنية.
لم تتحمل عدن التغول القبلي، فحدثت أحداث يناير الدامية 1986، وهذا ما انعكس على السنوات الأربع التي تلت وحدة 1990 مع صنعاء، فحدث واحد من أشرس التصادمات بحرب صيف 1994، والتي كرست الحكم القبلي في عدن والجنوب، وعززت من قبضة الإسلام السياسي بطرفيه (الإخواني والزيدي)، هذا الخلل بتراجع الليبرالية في عدن أحدث فجوة، اتسعت بعدم القدرة على استيعاب التراكم الخاطئ التي أوصل عدن إلى أن تتراجع بشكل مخيف.
الغزو «الحوثي» لمدينة عدن في 2014، كان امتداداً لخطاب عميق في وجدان شريحة واسعة، اعتقدت بأن التكفير وسيلة أخرى يمكن توظيفها باعتبار (دعشنة) عدن، لتمرير غريزة مدفونة في صراع أزلي بين نقيضين، فلا يمكن أن تتقاطع الليبرالية مع التطرف، ومع ذلك ظلت فكرة محاولة الدفع باتجاه فرض الصبغة المخالفة لمدينة عدن.
المدن التي تستطيع أن تصهر في باطنها الثقافات المختلفة لها نمطيتها وسلوكها، وكافة الأطراف التي حاولت بسط يدها على عدن، لم تستطع أن تتفهم بأن المدينة، التي امتدت لمئات السنوات في أن تكون جامعة، لا يمكن تحجيمها تحت أي ذرائع كانت، ديمومة الصراع

على عدن تحول مع تكراره، إلى ما يمكن أن يوصف بمجازر مكررة، لم تتوقف عند حدود استباحة الدماء تحت فتاوى الاحتقانات الدينية عند توظيفها سياسياً.