جمال سند السويدي

ربما يكون من البديهي القول إن الاستثمار في الإنسان هو أساس التقدم، إذ لا يتصور أن يكون هناك نهوض أو تطور لأي دولة أو مجتمع، من دون كوادر بشرية قادرة ومؤهلة في مختلف المجالات، ومن هنا فقد أعطت الدول المتقدمة أولوية قصوى للإنسان، ليس فيما يتعلق بجانب الحرية فقط، كما يعتقد الكثيرون، وإنما كذلك، والأكثر أهمية، فيما يتعلق بتأهيله وتمكينه من كل العلوم والمعارف والمهارات، التي تجعله لبنة أساسية في تطوير دولته، وعنصراً فاعلاً في بناء حضارته وتحقيق طموحات أمته.
رؤية مبكرة لدور الإنسان في عملية التنمية

اهتمَّت دولة الإمارات العربية المتحدة منذ نشأتها بالإنسان، وقد كانت رؤية المغفور له، الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، واضحة في هذا الشأن، منذ الأيام الأولى لقيام الاتحاد، ولعل مقولته الشهيرة: «الرجال هي التي تبني المصانع»، وقوله: «الثروة الحقيقية هي ثروة الرجال»، خير تعبير عن تلك الرؤية الملهمة، التي كان لها أكبر الأثر في الاهتمام الذي توليه الدولة لموضوع تأهيل الكوادر البشرية، وجعله أولوية دائماً وأبداً، بل أصبح الاستثمار في الإنسان هو عنوان مرحلة التطوير في عهد صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، حفظه الله. والإنسان هنا ليس مستهدفاً بعملية التنمية فقط، وإنما هو في الحقيقة الأساس في صناعتها، ولهذا تركِّز كل أهداف دولة الإمارات، منذ نشأتها، على رفع مستوى المعيشة للأفراد بشكل مطَّرد، وتوفير سبل الراحة والرفاهية للمواطنين والمقيمين على حد سواء. وفي الوقت نفسه عملت الدولة، على كل المستويات، من أجل تطوير الكوادر البشرية وفقاً للأسس العلمية السليمة، واهتمت مبكراً بالتعليم، فوفرت المدارس والمعاهد والجامعات، وأتاحت الفرص أمام كثير من المواطنين لاستكمال دراساتهم في أرقى الجامعات العالمية وأعرقها، من منطلق إيمانها العميق بدور العلم في تحقيق التنمية الشاملة، وفتح مجالات الرقي والتقدم على مختلف الصُّعُد. واستقطبت أفضل الكفاءات والخبرات العالمية من أجل تحقيق هذا الهدف، كما توسعت في هذا المجال بشكل غير مسبوق، فكانت المبادرات والبرامج التدريبية عنصراً أساسياً في عمل مختلف القطاعات والمؤسسات والجهات الحكومية وغير الحكومية.
وفي إطار حرص دولة الإمارات العربية المتحدة على الاستفادة من كل الطاقات، فقد عملت عبر استراتيجياتها المختلفة على تمكين شرائح المجتمع كافة من دون استثناء، كما ركزت على الفئات التي ربما لم تشارك بشكل كبير في عملية التنمية، وخاصة الشباب الذين يحظون برعاية مباشرة من القيادة الرشيدة، وهناك برامج كثيرة من أجل تأهيلهم والاستفادة من طاقاتهم الخلاقة، كما خصصت الدولة وزارة لشؤون الشباب. وكذلك الأمر بالنسبة إلى المرأة التي اقتحمت بفضل الرؤية الحكيمة، والسياسات الحكومية الرشيدة، الكثير من المجالات المهمة، حتى أصبحت، في سابقة على مستوى المنطقة والعالم العربي، تحتل نصف مقاعد المجلس الوطني الاتحادي. أما أصحاب الهمم، فهم يحظون، ليس برعاية خاصة وربما فريدة فقط، ولكنَّ هناك اهتماماً كبيراً بتمكين هذه الفئة إلى أقصى حد ممكن أيضاً، ولعل ما حققته الدولة في هذا المجال يُعَدُّ نموذجاً يحتذى به بالفعل.

أهمية الاستثمار في الموارد البشرية

ليس الاستثمار في الكوادر المواطنة وتأهيلها من أعمال الترف، ولكنه في الواقع ينطوي على قدر كبير من الأهمية لأي دولة تريد أن تكون في مصاف الدول المتقدمة، أو أن تكون نموذجاً في التنمية كما هي حال دولة الإمارات العربية المتحدة، وذلك لاعتبارات عدَّة من بينها:

أولاً، أن إيجاد كوادر مواطنة مؤهلة علمياً ومتخصصة بالمجالات المختلفة بات ضرورة تنموية ملحَّة، تنسجم وتتواكب مع حركة النهضة غير المسبوقة التي تشهدها الدولة في المجالات كافة، والتي تتطلَّب كوادر مواطنة متمكنة وقادرة على التعامل مع التحديات والتطورات المتسارعة التي يشهدها عالم اليوم، خاصة في مجال التكنولوجيا وثورة المعلومات، والاستفادة منها في عملية التنمية المستدامة التي تنشدها الدولة، وفي خدمة المجتمع في نواحي الحياة كلها.
ثانياً، أن توجه دولة الإمارات العربية المتحدة نحو اقتصاد المعرفة، الذي يعتمد بشكل أساسي على المجالات الحيوية الجديدة كالطاقة النووية والمتجددة، وعلوم الفضاء، وغيرها من العلوم والمعارف التي تشهد تطوراً لافتاً للنظر، يتطلب بالتأكيد وجود كوادر مواطنة متخصصة بهذه المجالات، حتى تتمكن من مواكبة التطورات المستقبلية لعملية التنمية المستدامة والشاملة التي تعيشها الدولة. وهنا تجدر الإشارة إلى نموذج جامعة «محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي» كأول جامعة من نوعها في العالم، التي تؤكد حرص الدولة على تطوير التعليم لمواكبة عصر الذكاء الاصطناعي.

ثالثاً، أن تأهيل الكوادر المواطنة، وتمكينها من العلوم والمعارف المختلفة، وتسليحها بالمهارات الحديثة في مختلف المجالات، تخدم بشكل أساسي سياسة التوطين، التي أصبح العمل على إنجاحها يشكل أولوية لدى مختلف الجهات في الدولة، ولا شك أن وجود كوادر مواطنة تملك مهارات سوق العمل في مختلف المجالات والتخصصات من شأنه أن يحقق أهداف هذه السياسة عبر رفد مؤسسات الدولة المختلفة بالعناصر المواطنة القادرة، ليس على إدارتها وتسييرها بفاعلية وكفاءة فقط، وإنما تطويرها والارتقاء بخدماتها والمهام التي أنيطت بها، أو أُوِجدت من أجل تحقيقها.

رابعاً، أن هناك تحديات غير مسبوقة للموارد البشرية على مستوى عالمي، حيث تحدثت دراسات متعددة، من بينها دراسة للمنتدى الاقتصادي العالمي، عن التحدي الذي تثيره الثورة الصناعية الرابعة، حيث يُتوقَّع أن يكون نصف الوظائف مؤتمتاً بحلول عام 2030، ما يزيد من الحاجة إلى موارد بشرية مؤهَّلة وقادرة على مواكبة التطورات المتسارعة في سوق العمل.
الاستثمار كأولوية في الاستراتيجية التنموية الشاملة

في ظل إدراك القيادة الرشيدة أهمية الاستثمار في الموارد البشرية عملت دولة الإمارات العربية المتحدة على جعل الاستثمار في الموارد البشرية المواطنة أولوية كبرى في إطار الاستراتيجية الشاملة، التي تتبنَّاها في مجال التنمية، تماشياً مع متطلبات العصر، ومن خلالها تبرز أهمية الخطط والبرامج التي تنتهجها القطاعات الحكومية والخاصة المختلفة للتركيز على الإنسان، بصفته أهم مرتكزات التنمية الشاملة والمستدامة. ولأن عملية الاستثمار في الإنسان تتطلَّب خطة محكَمة، ووسيلة شفافة تراعي حجم الاحتياجات والتوقعات، جاءت مشروعات الموازنات للسنوات الأخيرة ضخمة، لتلبية احتياجات التنمية، والتركيز على الموارد البشرية، وتحقيق الاعتماد على الذات في المجالات كلّها.
وإذا كان من الطبيعي أن تتجه الميزانيات إلى مختلف الجوانب التنموية داخل كل البلدان، فإن تخصيص الجزء الأكبر للقطاعات المعنية مباشرة برفاهية الإنسان وتأهيله وتوفير كل متطلبات حياته، كالتعليم والصحة والبنى التحتية، كما أظهرته الموازنة العامة لسنة 2020، التي تُعَدُّ الكبرى في التاريخ، حيث بلغت 61 مليار درهم، يعكس في حدِّ ذاته النهج الذي تتبناه دولة الإمارات للاستثمار في الثروة البشرية المواطنة، حيث خُصّص ثلثها (نحو 31%) لقطاع التنمية الاجتماعية، وثلثاها الآخران «للشؤون الحكومية والبنية التحتية والموارد الاقتصادية والمنافع المعيشية».
الحاجة إلى بذل المزيد من الجهود

لا شك أن الجهود، التي تبذلها الدولة في مجال التوطين وتأهيل الكوادر البشرية، استثنائية، خاصة في ظل التحديات الكثيرة التي تواجه هذه المهمة الصعبة، وقد أنتجت ثماراً طيبة، وهناك متابعة واضحة من وزارة الموارد البشرية والتوطين، والهيئة الاتحادية للموارد البشرية الحكومية، والهيئات الأخرى المعنية بالتوطين في إمارات الدولة كلها، لمؤشرات التوطين، سواء الخاصة بالحكومة الاتحادية، أو الحكومات المحلية، للتأكد من سيرها وفق الآليات والخطط الموضوعة لتحقيق تطلُّعات وتوجُّهات القيادة الرشيدة التي تولي ملف التوطين أهمية خاصة، وتضعه على رأس سلم اهتماماتها، انطلاقاً من حرصها على خلق فرص عمل للمواطنين في مختلف القطاعات، وتمكينهم من الإسهام في تحقيق التنمية الشاملة المستدامة، وهناك بالفعل مؤشرات إيجابية تحدثت عنها الهيئة الاتحادية للموارد البشرية الحكومية، وغيرها من المؤسسات المعنية.

ومع ذلك، فهناك حاجة إلى أن تبذل الدولة، ومختلف المؤسسات في القطاعين الحكومي والخاص أيضاً، المزيد من الجهود، فنجاح رؤية الدولة الاستراتيجية الرامية إلى رفع معدلات توطين الوظائف، والتي تنصبُّ مرحلياً على مضاعفة عدد المواطنين العاملين في القطاع الخاص إلى 10 أضعاف الرقم الحالي بحلول عام 2021، لن يتحقق كما هو مطلوب من دون تفاعل مختلف الجهات المعنية ومشاركتها الفاعلة من أجل تحقيق ما تصبو إليه القيادة، وهو جعل الإنسان عنصر التنمية وصانعاً لها، وفي الوقت نفسه مستفيداً منها، فيقع على عاتق هذه المؤسسات أن تجعل رؤية الدولة في تأهيل الكوادر البشرية أولوية استثنائية، بحيث يشكل بناء الكوادر المواطنة وتأهيلها بالشكل الصحيح أحد الأهداف الرئيسية التي توليها أهمية كبرى. ويجب ألا يكون التركيز على الجانب الكمي فقط، أي السعي نحو تحقيق نسب توطين عالية، من دون أن تكون مستندة إلى قواعد وأسس علمية وعملية سليمة، فهذا الأمر ينطوي على مخاطر كبيرة، فهناك تحديات كثيرة على طريق الرؤية الطموحة التي تسعى الدولة من خلالها إلى أن تصبح الأفضل في العالم في المجالات كافة بحلول الذكرى المئة لتأسيس الاتحاد، ولا يمكن مواجهة هذه التحديات، والتعامل معها بكفاءة عالية كما اعتادت الدولة منذ نشأتها، ما لم تكن هناك كوادر بشرية مؤهلة، وتملك فعلاً الخبرات والمهارات اللازمة من أجل مواصلة مسيرة النهضة الشاملة التي تشهدها الدولة.
ومن هنا لا بدَّ أن ننظر إلى مفهوم تأهيل الكوادر البشرية، ليس من باب التوطين كما هو سائد فقط، وإنما من باب التأهيل الحقيقي أيضاً، وهو ما يعني، أولاً وقبل كل شيء، ضمان أن تُخرج المؤسسات التعليمية كوادر متمكنة في مختلف المجالات والاختصاصات، مع ضرورة التركيز في هذا السياق على الجوانب العملية، بحيث لا يتم تخريج أي طالب من الجامعة ما لم يمرَّ بشكل إلزامي بمرحلة تدريب عملية مدتها ستة أشهر، وأقترح هنا أن تتكفل الدولة مثلاً بتغطية جانب من تكاليف التدريب العملي، وليكن النصف، والنصف الآخر تتولاه المؤسسة أو الشركة، وهذا الأمر من شأنه أن يفيد المؤسسات، ويعزز رؤية الدولة الخاصة بتأهيل الكوادر البشرية. ولا يكفي هذا فقط، بل لا بد، ثانياً، من توفير برامج تدريبية متقدّمة في مختلف المجالات بهدف صقل مهارات الكوادر من المواطنين ذوي المستويات التعليمية المختلفة، مع ضرورة أن تتبادل المؤسسات الخبرات في هذا المجال، وبذلك يشارك الجميع في نهضة وطننا العزيز، الذي ينتظره مستقبل مشرق، بإذن الله.