عبد الله المدني

أقدم مهاتير محمد رئيس الحكومة الماليزية في 24 شباط (فبراير) بصورة مفاجئة على تقديم استقالته من منصبه إلى عبدالله رعاية الله المصطفى بالله شاه ملك ماليزيا الذي قبل الاستقالة، لكنه طلب من مهاتير الاستمرار في مهامه منعا لأي فراغ دستوري في الدولة.

هذه الخطوة لم تكن متوقعة إطلاقا من رجل عرف عنه شراهته للسلطة، وتمسكه بها إلى درجة أنه قلب الطاولة على حزب "المنظمة الملايوية الوطنية المتحدة"، المعروف اختصارا باسم أومنو UMNO، وهو الحزب السياسي الذي نشأ به وصعد من خلاله إلى السلطة وحكم باسمه طوال ربع قرن تقريبا، وذلك حينما أسس حزبا جديدا (حزب بيرساتو) ودخل به ائتلافا سياسيا تحت مسمى "تحالف الأمل" مع أربعة أحزاب أخرى، أبرزها حزب "عدالة الشعب" بقيادة ألد أعدائه أنور إبراهيم في مطلع يناير 2018. وكان الغرض الأساس من هذا التحالف هو خوض الانتخابات العامة والإطاحة بتون نجيب رزاق رئيس الحكومة السابق بحجة فساده وتعديه على المال العام.
والمعروف أن الائتلاف المذكور فاز في الانتخابات التي جرت في أيار (مايو) 2018، وتم الاتفاق حينها أن يعود مهاتير لتزعم ماليزيا لمدة عامين يسلم بعدها سلطاته لإبراهيم، الذي كان يوما ما مرشحا لخلافته لولا الدس ضده واتهامه بتهم شنيعة يأنف منها المسلمون الماليزيون.
والحقيقة التي لا جدال فيها، أن استقالة مهاتير أربكت المشهد السياسي في ماليزيا، مثلما أربكت حلفاءه وأولئك المتخندقين وراء إبراهيم ممن يتوجسون خوفا من عدم التزام مهاتير بوعوده حول من سيخلفه، خصوصا أن في سجله السياسي كثيرا من الحوادث المشابهة التي أقصى فيها مرشحين محتملين لخلافته.

ما تردد في ماليزيا على خلفية الحدث المفاجئ، هو أن أنصار إبراهيم شددوا ضغوطهم أخيرا على مهاتير لتسمية إبراهيم رسميا خلفية له مع تحديد تاريخ محدد لإجراءات التسلم والتسليم، خصوصا في ظل بعض التسريبات بأن مهاتير لا يجد في إبراهيم الشخصية المناسبة لقيادة ماليزيا مستقبلا، ويفضل عليه سياسيا آخر من أتباعه.
وعليه يمكن القول، إن ضغوط إبراهيم كانت دافعا لتكتل أنصار مهاتير ومحازبيه السياسيين خلف الأبواب المغلقة للبحث في كيفية إبقاء السلطة بيد مهاتير لأعوام أخرى مقبلة. ومما قيل، إن المجتمعين توصلوا إلى ضرورة فتح قنوات اتصال مع زعماء "أومنو" لتشكيل ائتلاف حكومي بديل عن الائتلاف الحالي.

أما مهاتير الذي قال في أسباب استقالته: إنها ناجمة عن اشمئزازه من المماحكات السياسية الدائرة في البلاد، فقد أوضح أن تحركات أنصاره كانت من وراء ظهره ودون علمه، مضيفا أنه لن يضع يده مرة أخرى في أيادي من تلطخت سمعتهم بالفساد والفضائح المالية، في إشارة إلى زملائه القدامى في حزب أومنو الذي حقق الاستقلال لماليزيا، وقادها على مدى ستة عقود منذ زمن تكنو عبدالرحمن بطل الاستقلال وأول رؤساء الحكومات الماليزية، وفي استطراداته قال مهاتير: إن أبواب حزبه مفتوحة دوما أمام أعضاء "أومنو" للالتحاق به من أولئك الذين لم يرتكبوا جرما أو شائنة تدينهم.

على أنه سرعان ما ثبت للعالم عكس ما صرح به مهاتير. ففي خطاب متلفز له في 26 كانون الأول (يناير) دعا الزعيم التسعيني المستقيل إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية لا تتبع أي حزب أو سياسي، وهو ما فسره أنصار إبراهيم وآخرون كثر بأنها مصادقة مهاتيرية لتحركات أنصاره المذكورة آنفا، بل محاولة منه للتهرب من وعوده بتسليم السلطة إلى حليفه إبراهيم. ولعل ما زاد في اتساع رقعة الخلاف أن إبراهيم خرج بتصريح قال فيه: إن ثلاثة أحزاب شريكة في "تحالف الأمل ترشحه هو ليقود ماليزيا.
وهكذا شرعت الأبواب لمزيد من الاستقطاب والاحتقان السياسي، وتوقع كثيرون أن المخرج هو صدور قرار ملكي بالدعوة إلى انتخابات جديدة، ولا سيما أن مهاتير ليس بالرجل الذي يقبل الهزيمة، فضلا عن أنه جاء بأجندة سياسية خارجية جديدة يريد أن يرعاها ويقطف ثمارها.

وهنا أشار بعض المصادر إلى مخاوف مهاتير من أن يسلك إبراهيم -إذا ما تسلم قيادة البلاد- سياسة خارجية بعيدة عن محور كوالالمبور - أنقرة - طهران - الدوحة، بما في ذلك التماهي مع سياسات واشنطن في الشرقين الأوسط والأقصى، خصوصا أنه ارتبط بعلاقات وثيقة مع واشنطن يوم أن كان نائبا لرئيس الوزراء ووزيرا للمالية قبل أن يقصيه مهاتير من منصبه ويلطخ سمعته.
لكن العاهل الماليزي فاجأ الجميع في 29 شباط (فبراير) بتسمية المشرع ووزير الداخلية السابق محيي الدين ياسين رئيسا جديدا للحكومة، علما بأن الأخير يشغل منصب نائب رئيس تحالف الأمل، وفي الوقت نفسه هو زعيم أحد الأحزاب المكونة للتحالف، وكان نائبا لرئيس الحكومة من 2009 إلى 2015، ونائبا لرئيس حزب أومنو، فضلا عن أن علاقته بمهاتير شهدت صعودا ونزولا. وفي اعتقادنا أن قرار الملك استهدف وضع حد لتغول مهاتير السياسي والإتيان بشخصية تقف على مسافة واحدة بينه وبين إبراهيم، أو هكذا يفترض حتى الساعة، مع عدم استبعاد أن يميل محيي الدين نحو هذا أو ذاك مستقبلا بحسب اتجاه الرياح السياسية والانتخابية.