سليمان جودة

في واحد من خطاباته توقف الرئيس السادات عن القراءة من ورقة كانت أمامه، ثم نظر حوله في اتجاه النائب حسني مبارك وقال: «في إسرائيل يعرفون حسني جيداً... يعرفونه ويخافون منه». قالها ثم مضى في استكمال الخطاب، كأنه أراد عبارته شهادة باقية من بعده في حق الرجل الذي اختاره نائباً للرئيس!

وما قاله السادات أمر طبيعي ومنطقي في وقته، وفي كل وقت جاء فيما بعد. طبيعي أن يعرف الإسرائيليون مَنْ هو مبارك، لأنه قبل أن يتولى موقع نائب رئيس الجمهورية، لم يكن من آحاد الناس، ولا كان من عابري السبيل، ولكنه كان قائداً للقوات الجوية. ومنطقي أن يخافه الإسرائيليون، لأنه هو الذي قاد أول طلعة من طلعات الطيران في حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973، وهي الطلعة التي اشتهرت بأنها الضربة الجوية الأولى، والتي ضمت 220 طائرة عادت كلها بأقل الخسائر الممكنة، والتي أيضاً فتحت الطريق نحو النصر الكبير!

ولا أحد يعرف ما إذا كان هذا هو السبب فقط، الذي دعا السادات إلى اختيار مبارك نائباً له، دون سائر القادة الذين كانوا في الصف الأول يومها، أم أن هناك أسباباً أخرى رآها صاحب القرار دون سواه... ولكن الراجح أن الاختيار كان راجعاً في جانب كبير منه إلى رغبة واضحة لدى السادات في الانتقال بشرعية الحكم من شرعية ثورة يوليو (تموز) 1952، التي كان هو ينتسب إليها ويحكم باسمها، كما كان حال عبد الناصر من قبل، إلى شرعية نصر أكتوبر التي انتسب مبارك إليها وحكم باسمها ثلاثين سنة!
كان اعتقاد السادات ليس فقط أنه آخر الذين سيحكمون من بين رجال الثورة وقادتها، ولكن اعتقاده كان أنه يمثل مع عبد الناصر آخر الفراعين في حكم مصر، فهكذا نقل عنه أحمد بهاء الدين في كتاب يومياته الذي صدر عن «دار الهلال» في القاهرة!
والمؤكد أن السادات وهو يختار مبارك نائباً، لم يكن يقرأ الغيب ليعرف أنَّ شيئاً من نوع ما سيكون بمثابة القاسم المشترك الأعظم الذي يجمع بينهما مستقبلاً في آخر المشوار، ولا كان يعرف أن هذا الشيء هو الطريقة التي سيتصرف بها تيار الإسلام السياسي مع كليهما على السواء!

فالسادات هو الذي أعطى هذا التيار مساحة من الحركة في الحياة العامة، لم تكن متاحة له في أيام عبد الناصر، ولا في أي عصر سياسي آخر سابق أو لاحق، وبصرف النظر عن السبب وراء إتاحة الساحة أمام جماعة الإخوان المسلمين بالذات، وأمام الجماعات الإسلامية على العموم، إلا أن التجربة التي مررنا بها تقول إن ما أقدم عليه السادات في هذا الشأن لم يكن هو القرار الصواب. لم يكن صواباً ليس فقط لأن صاحبه لم يشرح مبرراته المقنعة وراء قراره، ولا فقط لأنه فقد حياته على أيدي هؤلاء الذين أعادهم إلى الملعب السياسي، ولكن لأنهم أساءوا التقدير فعاشوا في أيامه ومن بعده لا يرون هدفاً أمامهم سوى السلطة، ولا يقطعون خطوة في أي اتجاه إلا في سبيل هذا الهدف دون سواه من الأهداف!
والمشكلة طبعاً لم تكن في السعي إلى السلطة من جانبهم، فمن حق كل جماعة سياسية معلنة، ومنظمة، وشرعية، أن تسعى إلى الكرسي، ومن حقها أن تتطلع إلى مواقعها في مقاعد الحكم باستمرار، ولكن المشكلة ظلت في شكل الطريق الذي تسلكه جماعة حسن البنا وغيرها من الجماعات الخارجة من عباءتها وصولاً إلى الحكم، وما إذا كان طريقاً يحترم الدستور القائم، ويلتزم قواعد اللعبة، ويعمل في إطار القانون، ولا يخرج على النظام القائم، أم أنه طريق ينقلب على هذا كله، ويشجع على العنف، ولا يقبل بالآخر المختلف، ولا يبالي على أي شيء يدوس في هذا السبيل؟!

نذكر بالتأكيد أن السادات فقد حياته على أيدي جماعة من جماعات الإسلام السياسي، وأنه سقط مضرجاً في دمائه، بينما كان يحتفل مع جنوده بذكرى يوم النصر، وأن ما توفر لدى الأجهزة المعنية يومها كشف عن وجود خطة مرسومة لدى جماعات هذا التيار، لاقتحام مبنى ماسبيرو الذي يضم الإذاعة والتلفزيون، والإعلان من فوق شاشاته عن الاستيلاء على السلطة!
كانت الخطة أن يجري هذا ويتم في لحظة الاغتيال نفسها، فلما فشلت الخطة جرى اقتحام مقر الشرطة في محافظة أسيوط جنوب البلاد، وممارسة العنف مع الضباط والجنود كما لم يحدث من قبل، بما أدى إلى سقوط ضحايا بلا عدد من بين المدافعين عن المقر في مواجهة المهاجمين!

وبدا الهجوم على مقر الشرطة، والتعامل مع أفراد القوة الموجودة فيه بوحشية، كأن الهدف هو إرسال كارت إرهاب إلى الدولة في العاصمة!

ولكن الدولة تجاوزت المحنة وعبرت من فوقها، وجاء مبارك النائب في مكان السادات، وأفرج عن 1536 كان السادات قد اعتقلهم قبل اغتياله بأقل من شهر، وظهر أن الرئيس الجديد راغب في فتح صفحة مختلفة مع كل الأطراف، بمن فيهم جماعة الإخوان أنفسهم، وكانت نظريته أن وجود الجماعة الإخوانية أمامه داخل الحياة السياسية، أفضل من وجودها تحت الأرض، أو وجودها خارج البلد مع الخصوم والأعداء!
ولكن الثابت مما جرى لاحقاً أنها لم تحترم هذا الاتفاق غير المكتوب مع مبارك، حين لاحت أمامها فرصة لتأليب الناس عليه، بالضبط كما لم تحترم اتفاقاً آخر غير مكتوب كذلك، كان هو الحاكم للعلاقة بينها وبين السادات طوال السبعينات!
وكان النفخ في فكرة توريث جمال مبارك هو أداتها في التأليب، ولا يزال اعتقادي أن التوريث كان فكرة مصنوعة في الأساس، أكثر منها أي شيء آخر، وأن الإخوان ضخّموا منها لأكبر مدى ممكن لهدف محدد، وأنهم كانوا يجدون عوناً في ذلك من إدارة جورج بوش الابن، ومن إدارة باراك أوباما من بعده، وليس موقف الأخير من مبارك بالذات في أثناء أحداث 25 يناير (كانون الثاني) سوى دليل على ذلك بالغ الوضوح!

كان مبارك يؤكد في كل مناسبة أنه سوف يظل في منصبه، ما دام فيه عرق ينبض، والمؤشرات كانت تقول إن المؤسسة العسكرية لم تكن تستسيغ فكرة التوريث، ولا كانت على استعداد للقبول بها، ولم يكن هذا سراً في الحالتين، سواء حالة مبارك أو حالة المؤسسة، ولم يكن للفكرة بالتالي مكان عملي على أرض الواقع الحي، لا في حياة الرجل يرحمه الله، ولا بالطبع بعد رحيله عن الدنيا، لو كان الله قد كتب له أن يرحل وهو في السلطة!
ووجدت الجماعة ضالتها في ملف التوريث، وراحت تضيف إليه ورقة جديدة يوماً من بعد يوم، حتى انفجر في وجه مبارك في سياق ما لا يزال يتسمى الربيع العربي، وكان الهدف لديها هو السلطة ولا هدف غيرها، وكانت خطواتها فيما بعد «الربيع» تؤكد هذا وترسخه!
والحصيلة أن السادات إذا كان قد غاب عن الحياة، على أيدي جماعة خارجة من باطن الإخوان، فمبارك غاب عن السلطة على أيدي الإخوان بالأساس، بعد أن عزّ عليهم تغييبه عن الحياة عبر ست محاولات اغتيال، أشهرها حادث إثيوبيا 1995 الذي نجا منه بمعجزة!