إياد أبو شقرا

بصدق شديد، أستغرب كيف يتصدّى بعضنا، نحن أهل الإعلام، للحسم في موضوع خارج نطاق تخصّصنا.
هنا لا أقصد «علم» السياسة، حيث اختلف المتخصّصون فيه حول ما إذا كان يصح اعتبار السياسة من «العلوم» أم لا... أو «علم» الاقتصاد الذي، على الرغم من أرقامه ومعادلاته الحسابية، ثمة مَن شكك ويشكك في دقة توقعاته ورصده، وانتقد وينتقد الشطحات التقديرية في قراءته.
أنا أقصد الطب والعلوم الصحية.
الطب والعلوم الصحية ما عادا خاضعين فقط لهيمنة الساسة والاقتصاديين، الذين توكِل إليهم الأحزاب السياسية وكتل الضغط والمصالح مهام رسم السياسات الصحية، تحت ذريعة النجاعة والفاعلية الإدارية، بل صرنا نحن الإعلاميين أيضاً نُفتي ونجزم ونجادل... حتى أولئك الذين هم أكثر علماً وخبرة منّا!
إزاء انتشار وباء عالمي مجهول التفاصيل، مثل «كوفيد 19» (فيروس كورونا التاجي المستجدّ)، أعتقد أن التعامل معه يجب أن يُترك حصراً لأهل الاختصاص. ومن ثم، بعد توافر الحقائق لهؤلاء وعبرهم حصراً، يأتي دور الآخرين في اتخاذ المواقف وإجراء القراءات السياسية والمصلحية وترتيب الأولويات ومعالجة الهواجس والمخاوف. وهنا أزعم أن الهواجس والمخاوف لا بد أن تتزايد كلما تراجعت الشفافية، وظهر ميل – بل إصرار – عند بعض الحكومات نحو التكتم والتستر، كما حدث في الصين مع بدايات ظهور الوباء في ديسمبر (كانون الأول) الماضي، وكما شهدنا في إيران لاحقاً.
حتى في الغرب «الديمقراطي» ما زالت بعض الحكومات تلعب «لعبة الوقت» بحجة تفادي إحداث هلع في صفوف الناس. وهذا قد يكون صحيحاً في معظم الحالات. ولكن في حالات أخرى يشك قطاع من المراقبين في أن بعض الحكومات والقوى السياسية تكترث ببعض الناس لا كل الناس. ويذهب هؤلاء أبعد، فيتّهمون بعض غلاة الآيديولوجيين – ولا سيما في معسكر اليمين البراغماتيكي – بأنهم لا يرون ضيراً في رحيل فئة «غير منتجة» من المواطنين، إما بسبب التقدّم في السن أو العجز أو المرض المزمن، لأنهم يشكلون عبئاً اقتصادياً على الدولة.
هذا المسألة الحسّاسة قد لا تحتاج إلى طرحها بصورة مباشرة وفجة، بل يمكن التطرق إليها مواربةً على أساس «الواقعية»، وذلك بالقول إن الموارد والإمكانات المحدودة تفرض اعتماد «أولويات» للاستفادة من الموارد المتاحة، من عدد المستشفيات ومعازل الحجر، إلى الأجهزة الطبية المتخصصة في خدمات الطوارئ، وانتهاءً بالعلاجات المركّزة في غياب الأمصال واللقاحات.
ولكن الحقيقة التي لا بد من مواجهتها، أن العالم بأسره – ربما باستثناء الصين – يتوقع أن تسوء الأمور أكثر قبل أن تَلوح في الأفق إمكانيات الاحتواء، ثم الانحسار.


وبعدما قارب الـ100 عددُ الدول المُعلن فيها عن إصابات، ولامس - بل ربما تجاوز - عدد الإصابات الـ100 ألف، يشير آخر التقديرات إلى أن العالم مهدّد بخسائر اقتصادية في حدود ثلاثة تريليونات دولار. وثمة قطاعات اقتصادية بعينها تواجه أوضاعاً كارثية قد تصل إلى انهيارات وإفلاسات بالجملة، منها السياحة والنقل، إلى جانب قطاعات تجارية وخدماتية، بما فيها قطاعات التعليم والرياضة والفنون.
الوضع يشكّل، إذاً، تحدّياً عالمياً لا يجوز التقليل من خطورته، حتى لو أخذنا في الاعتبار أنه أخذ العالم كله على حين غِرّة. ولا بد من التعامل مع هذا التحدّي وفق خطة شاملة وجدّية تتأهب للأسوأ، ما دام لا يُتوقع حدوث اختراقات علاجية خلال فترة قريبة.
ولئن كان كثيرون سيجادلون بأنه أسهل على دول – مثل الصين - تتمتع بإمكانيات مادية ضخمة، ويديرها نظام سياسي ذو إمرة هرمية صارمة، اتخاذ تدابير راديكالية قاسية... بحق مواطنيها وزوارها، فإنني أعتقد أن التقاعس تحت أي حجة من الحجج يهدر على المواطنين وقتاً ثميناً وفرصاً قد تكون الفارق بين الحياة والموت.
لا أفهم مثلاً، استمرار الرحلات الجوية مع دول صَنّفت نفسها «دولاً موبوءة»، على ما في هذه الصفة من قبح... ولا أفهم التراخي في ضبط الحدود البرّية، والتأخر في تبادل المعلومات.
أيضاً لا أفهم مبرّراً للإبقاء على المدارس مفتوحة، أو التأخر عن ترك حريّة الخيار للأهل، في دول تقرّ حكوماتها بأن معدلات الإصابة فيها حالياً مجرد «قمة جبل جليد».
حتماً، التوعية وتوجيهات السلامة العامة من الأمور الضرورية، غير أنها في ظل المجهول الكبير لا تفي بالغرض. ومهما كان العبء المادي باهظاً فإن التكلفة الإنسانية أبهظ وأكثر إيلاماً. وهذا ما يعود بنا إلى التشديد على أن العالم بحاجة إلى سياسات صحية يقرّرها المتخصّصون.
طبعاً، لا يجادل إلا ساذج بأنْ لا دور للساسة وأصحاب المصالح في رسم السياسات. وأكيد، القرارات النهائية ستكون لهم، لكنّ هؤلاء بحاجة إلى شجاعة فئتين تنشطان في إقناعهم، وإذا احتاج الأمر، فضحهم.
الفئة الأولى هم الخبراء الصحيون والأطباء المتخصّصون، ولا سيما أولئك الذين يقفون في خط الدفاع الأول ضد الوباء. ولقد خرج من هذه الفئة أبطال حقيقيون احترموا واجبهم الطبي وضميرهم الأخلاقي، كالطبيب الصيني الراحل لي وينليانغ (34 سنة) الذي كان أول من حذّر من الفيروس بعد اكتشافه في مستشفى ووهان المركزي، وأُصيب به ثم قضى منه في أثناء معالجته المصابين.
والفئة الثانية هم الإعلاميون المتسلّحون بمعرفة الفئة الأولى. وعبر جهود هؤلاء الإعلاميين المسؤولين والملتزمين يُصار ليس إلى تثقيف الرأي العام وإرشاده فحسب، بل يُرصد تعامل المسؤولين، ويُكشف عن تقصيرهم في حال قصّروا أو أخطأوا أو استغلوا أو عبثوا بمصائر المواطنين الذين ائتمنوهم على مصائرهم ومصائر أسرهم.
الأزمة كبيرة ومُكلفة، ويرجّح أنها ستكون واسعة النطاق وطويلة الأمد نسبياً... ولا حق أثمن من الحق بالسلامة والأمان