عبد الإله بلقزيز

على مثال ما، يسع الباحث في المصادر التاريخية لتكون الصور النمطية المتبادلة، بين العرب والغرب، أن يعود إلى جذورها الأولى في العهد الوسيط، فينقب عنها في وقائع الاحتكاك والصدام العسكري، كما في المجادلات العقدية والفقهية بين المسلمين والمسيحيين، يسعه بالقدر عينه أن ينقب عنها في الماضي القريب، كما في الحاضر الراهن، في الصدامات التي لم تكد أن تنقطع حتى اليوم، كما في التفاعلات السياسية التي لم تكن يوماً متكافئة بين العالمين منذ انهيار التوازن بينهما في مطلع الأزمنة الحديثة خاصة، منذ خطت المدنية الغربية الحديثة خطوتها الكبرى نحو فرض سلطانها كونياً.
لم تكن حركة الاستعمار مثلاً تفصيلاً عادياً في تاريخ الشعوب العربية والإسلامية التي كانت بلدانها عرضة لها، منذ نهايات القرن الثامن.
لقد أخرجتها بقوة العنف، من تاريخها الخاص إلى تاريخ كوني تحكمه القوى «الاستعمارية» الكبرى، ولكن لا كأمم وشعوب مشاركة فيه؛ بل كموضوع للسيطرة ثم للهيمنة. لا ينسى العرب والمسلون أن تاريخ الاستعمار «في ديارهم» تاريخ تحكّم وإذلال وقتل ونهب للثروات، وتاريخ اغتصاب ثقافي ولغوي وقيمي؛ تاريخ تقسيم لكياناتهم وتمزيق لأواصر علاقاتهم، وزرع لأسباب الفتن القُطرية والطائفية والمذهبية والأقوامية في تلك الكيانات. وهل عاشوا بعد حصول دولهم المجزأة على استقلالها غير فصول من تلك الفتن التي ما برحت حتى يوم الناس هذا، تفتك بكياناتهم الصغيرة وتمزق نسيجها الوطني والاجتماعي؟ وهل تمتعوا باستقلالهم السياسي وقرارهم الوطني مصادر، واقتصاداتهم مكبلة بأرباق التبعية للميتروبولات الغربية وأصفادها؟ تركة الاستعمار ثقيلة على حاضرهم وقيد مضروب على مستقبلهم، ما زالوا يعيشون مفاعيلها الفتاكة، وهم لا يقوون على نسيانها حتى لو هم رغبوا في النسيان.
نافل هو القول إن الصهيونية ودولتها العنصرية «إسرائيل»، واحد من أشد تلك المواريث الاستعمارية شناعة وشراً. ازدرعها بتواطؤ مع نخبة سياسية صهيونية، ربيت في أكنافه وتشربت تعاليمه، كي تنهض بأدواره في بلادنا، نيابة عنه، وتتقاسم معه من ذلك المغانم. لم تنزل «إسرائيل» من السماء، هو من أقامها بتخطيطه؛ بدعمه الهجرة اليهودية إلى فلسطين (مستثمراً صعود النازية)، بتسليح العصابات الصهيونية وتغذيتها بالمال، ومنحها «الوطن القومي» في فلسطين؛ بتقسيم فلسطين في الأمم المتحدة ومنح قسم منها لليهود لإقامة دولة بالاعتراف الرسمي ب«إسرائيل» وإغداق الدعم المادي والعسكري والسياسي عليها، بتغطية توسعيتها خارج فلسطين؛ بالصمت على سياسات الاستيطان والتهويد والقمع الأعشى التي تمارسها، بتجريم المقاومة ضدها والضغط لوقف المقاطعة المفروضة عليها؛ بمعاقبة من يرفضون التسوية المذلة معها..

وما اكتفى الاستعمار بزرع هذا الكيان في قلب الوطن العربي وسرقة فلسطين من أهلها الشرعيين؛ بل كرسه لحماية التجزئة والتخلف ومنعاً لأي محاولة للتوحيد والتقدم بين العرب؛ بل للتعاون!
ما من أحد من العرب والمسلمين، ينسى ما فعله الاستعمار والصهيونية بنا. وهذا وحده كافٍ لأن يجدد في النفس مفعول تلك الصور التي كونها المسلمون عن الصليبيين وأحفادهم الإسبان الكاثوليك، خاصة حين يساعدهم على ذلك بعض الخطاب الغربي الحاقد على الإسلام والمسلمين والعرب، والناهل من تراث عنصري بغيض (هو عينه الذي تولدت منه النازية والصهيونية)، وحين يكرس من مفعولية تلك الصور ما يعاين اليوم من وقائع العدوان على شعوب بعينها في الأرض؛ لأنها من دائرة الإسلام، دعك مما يلقاه المهاجرون العرب والمسلمون في بلدان الغرب، من صنوف التمييز ومن أفعال عنصرية.
على أن الاستدراك النقدي هنا، واجب درءاً للتعميم المخل، ودرءاً لأي شرعنة للتغليط، يمكن لمعاناة العرب والمسلمين مع الاستعمار ومواريثه البغيضة، أن تهجس وعيهم به، وترسخ في ذاكرتهم شعور العداء نحوه، ولكن من قال إن الاستعمار هو الغرب، أو إن الغرب كله هو الاستعمار؟ صحيح أن الأخير خرج من بيئات الغرب: السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ولكن الغرب لم ينتج الاستعمار فحسب؛ بل أنتج الأنوار والعقلانية والعلم والنزعة الإنسانية وأفكار التسامح والحرية والحقوق المدنية والسياسية والمساواة بين الجنسين والنظام الديمقراطي أيضاً.

إذا كان الاستعمار يمثل الوحشي في الغرب، فالإنساني في الغرب هو العقل وفتوحاته تلك، وهو براء من كل وحشية الاستعمار. وعليه، ما من مشروعية لمحو كل هذه الفتوحات والمكتسبات من تاريخ الغرب واختزاله إلى مجرد استعمار وإمبريالية وهيمنة وصهيونية. من يفعل ذلك يقود حكماً إلى تنمية أسباب الحروب والعداء والكراهيات بين المجتمعات والأمم.