خالد أحمد الطراح

حين يفقد المواطن الشعور بالانتماء الى وطنه لأسباب سياسية بالدرجة الاولى، يدخل في حالة من الاغتراب واضطراب المشاعر اجتماعياً، فالعزلة اللاإرادية عن المجتمع قد تدفع الى الانتحار نتيجة الإصابة بحالات عميقة من الاكتئاب. اما الغربة فهي العيش بعيدا عن الوطن والأهل..

الشوق الجارف للأحبة وثنايا الذكريات من الطفولة حتى النضوج، فسباق المغترب يبدأ من ساعة السفر بعيدا عن الوطن حتى آخر اللحظات من الاستعداد للعودة.. العودة بثوب وعقل جديدين، او العودة بالأفكار نفسها او التمرد على كل شيء، قد يكون بعضها سلبياً او ايجابياً. منذ وفاة الشقيق الاكبر- أبي نادر- في شهر رمضان من عام 2019، شعرت بفقدان الأب والأخ والصديق.. ابتسامة ورحابة صدر وود فطري اجتمعت في ذات انسان واحد. لم تمض على وفاته سوى بضعة شهور أليمة.. تقاسمت قسوة الفراق مع شقيقي والصديق، يعقوب «بوسليمان»، الذي يكبرني ببضع سنوات، لكنه بالنسبة إلي توأم الروح. عادت صورة المعلم أبي نادر، وهي اساساً لم تغب يوما بفضل اعماله الطيبة. من دون مقدمات وجدت نفسي في الفترة الاخيرة امام منزل المرحوم بونادر.. تعتصرني الذكريات وتمزقني الآهات.. يحرق قلبي ماء العيون..

هكذا الحياة تبدو بعد افتقاد انسان عزيز. حرقة الجفون وارتعاشها، اشعلتها الاخت العزيزة والزميلة سعاد فهد المعجل من دون ان تدري.. فإنني على يقين أنها حين اهدتني روايتها «الغربة الثانية» - ليست حديثة - التي هي عبارة عن رحلة استكمال فكرة رواية خالها المرحوم عبدالله حمد المعجل، الذي وافته المنية قبل انهاء روايته وعودته الى السعودية، تاركا الباقي المتبقي من الرواية لسعاد الوفية. جالت الرواية بعقلي من جديد في اميركا وذكريات الطلبة، مع فارق الزمن بين مرحلة الدكتور عبدالله المعجل ومرحلتي، لكن ثمة العديد من العوامل المشتركة بين السبعينات والستينات، التي احيتها فصول الرواية. المفارقة الكبيرة والمؤلمة للغاية، انني عدت فرحا بشهادتي الجامعية لأبي الطاعن بالعمر ووالدتي، مصدر الدلع والولع، بينما عاد الدكتور عبدالله، خال سعاد، عليل القلب ومكسور الجناح، بسبب فقدان شقيقه الاكبر بحادث مروري في اميركا قبل اسدال الستار على روايته، فقد عاد مع جثمان شقيقه.. مناجياً روحه وجمرة الدموع بين الرموش.

كانت صفحات الرواية بمنزلة رياح عاتية على اعتاب ابواب الذكريات التي احتضنتها منذ كنت طالباً.. ادرس تخصصاً في الإعلام نتيجة نصيحة شقيقي يعقوب، وهو الذي انهى دراسة الهندسة، اي تخصص علمي لا علاقة له بالإعلام. تنبأ ابو سليمان بأن هذا التخصص هو الانسب لي والواعد مستقبلاً، وقد كانت النتيجة ما حصدته خلال رحلة مهنية مشوقة، برفقة أسرتي الصغيرة، التي قادتها الزوجة الغالية بصبر وحكمة، فهي مصدر نجاحي وسعادتي ضمن مسيرة امتدت من الهند والاتحاد السوفيتي ومصر وبريطانيا حتى اليوم. لا فرق عندي بين الغربة والاغتراب.. فقد قست علي العزيزة سعاد - من دون ان تدري - انني اعيش الغربة الجديدة بعد وفاة ابي نادر، وهي تعاني المشاعر نفسها بعد فقدان خالها وتوأم الحياة موضي الهويدي. هذه غربتنا الجديدة يا سعاد! .