سليمان جودة

قبل 12 عاماً على وجه التقريب، كان منتدى دافوس الاقتصادي الذي ينعقد سنوياً في سويسرا، على موعد مع رجل ممن يشار إليهم بأنهم يجيدون قراءة المستقبل. وقد كان المستقبل الذي كان على ذلك الخبير أن يقرأ صفحته، هو مستقبل العالم كله، وليس مستقبل شخص هنا أو هناك!

وقد اجتهد الرجل يومها في قراءة فنجان العالم، خلال الخمسة عشر عاماً التالية. وكان معنى ما قاله وهو يقرأ الطالع لهذا العالم ويحاول الإطلال عليه، أن حدود ما راح يتوقعه سوف تمتد إلى عام 2023، فهذا التاريخ هو بالضبط نهاية سنوات العقد ونصف العقد التي قال خبير دافوس أنه يستطيع أن يراها على البُعد، وأن يرى ما سوف يميز عالمنا خلالها من تفاصيل!
وقد أحصى ثلاثة معالم رأى أنها - دون غيرها - سوف تطبع وجه عالم العقد الثاني من هذا القرن، ومعه ما يقرب من نصف العقد الثالث!

وكان أول الملامح الثلاثة أن أفريقيا ستتحول إلى قوة اقتصادية ضخمة، بما يعني أن هذه القارة السمراء سيعاد اكتشافها من جديد، وأنها لن تكون أفريقيا التي عاش العالم يعرفها أرضاً للفقر مرة، وساحة للاحتلال والاستغلال مرة أخرى. والحقيقة أن تلك القراءة يبدو أنها كانت في محلها من هذه الزاوية على وجه التحديد، فأفريقيا التي تتصارع عليها حالياً الدول الكبرى، وبالذات الصين وروسيا والولايات المتحدة، ليست هي أفريقيا التي كانت إلى سنوات مضت ملعباً للأوبئة والأمراض، ولا هي أفريقيا التي عاشت تمثل أهل الجنوب التعساء في مقابل أبناء الشمال الأثرياء!

وعندما استحدثت الرياض وزارة في الحكومة للشؤون الأفريقية، ووضعت على رأسها السفير أحمد قطان، السفير السابق لخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز في القاهرة، فالغالب أنها كانت تفعل ذلك بوحي واستلهام من أصداء تلك القراءة المستقبلية للقارة التي لا يفصلها عن السعودية سوى البحر الأحمر، والتي يعيش فيها نحو مليار إنسان!
وكان الملمح الثاني في قراءة خبير دافوس، أن الكتاب التقليدي الذي عشنا نعرفه، مرشح للاختفاء خلال هذه المدة التي تشملها القراءة، بعد أن كان قد ساد وتسيد من قبل، على مدى قرون من الزمان. وكان القصد هو الكتاب الورقي طبعاً الذي عاشت دور النشر تخرجه إلى النور، وعاشت المكتبات تتنافس في اقتنائه وتتباهى بأعداده على الرفوف، لا الكتاب باعتباره وسيلة من وسائل توصيل المعرفة، منذ جرى اختراع المطبعة في القرن الخامس عشر لميلاد المسيح - عليه السلام - فالوسيلة يمكن أن تتغير أو تتبدل، ولكن المضمون الذي تحمله إلى القارئ يظل كما هو على الأرجح!
ولكن الظاهر أن قراءة المستقبل في هذا الاتجاه لم تكن في محلها لأسباب كثيرة، منها أن الكتاب الذي أخذ مكانته لدى متذوقي الكلمة المكتوبة بامتداد سنين وسنين، لا يمكن أن يختفي في هذه السنوات القليلة ولا بهذه السهولة، ومنها أن دراسات استطلاعية تخرج علينا يوماً تلو آخر، لتقول إن الكتاب الإلكتروني الذي يحتفظ به بعضنا على جهاز الجوال أو على جهاز الـ«آيباد»، قد يكون قد حاز إعجاباً وإقبالاً لفترة، ولكن الثابت أن حنيناً خفياً إلى الكتاب الورقي لا يزال مستقراً في وجدان الذين نشأوا عليه، والثابت أيضاً أن الذين فارقوه إلى الإلكتروني قد عادوا إليه في الغالبية منهم، وأن هذه الغالبية قد أحست من التجربة المباشرة بأن للكتاب الورقي متعة، لا توفرها القراءة على شاشة مضيئة مهما كانت الإغراءات التي تقدمها للقراء!


والمعنى أن وجود الكتاب الإلكتروني ليس من الضروري أن يكون خصماً من وجود الكتاب الورقي، ولا حتى من رصيده لدى الجمهور، فالجائز أن يتزامن وجودهما، والأقرب إلى الاحتمال أن يكون هذا متاحاً إلى جوار ذاك، وألا ينفي أحدهما الآخر، تماماً كما جاء التلفزيون من بعد الإذاعة، فلم يحدث أن قضى عليها. قد يكون قد أزاحها قليلاً عن وضعيتها الأولى بين جمهورها، ولكنه أبداً لم يحرم جمهور الراديو من الاستماع إليه، ولا من الاحتفاظ به في الجيب متنقلاً من أرض إلى أرض!
ولكن الملمح الثالث في قراءة خبير دافوس كان مختلفاً؛ لأنه توقع فيه أن يتحول الماء إلى سلعة، وأن يكون محل صراع وتنافس بين شتى الدول في مختلف القارات!
وكان القصد هو الماء العذب بالتأكيد، فما أكثر البحار والمحيطات التي تفيض بالماء المالح على شطآن العالم، وما أقل الأنهار التي تجري بالماء الحلو في قارات الدنيا الست، وما أشد الإسراف الذي يمارسه الإنسان في حق الماء من هذا النوع الثاني في كل مكان!
وفي منتصف القرن الماضي، كان الدكتور طه حسين قد أطلق شعاره الشهير الذي كان يقول إن التعليم كالماء والهواء. وكان عميد الأدب العربي يريد أن يقول إن التعليم يجب أن يتاح للناس كافة، كما يتاح لهم الماء وكما يتاح لهم الهواء، وكما لا يستطيعون العيش بدونهما الاثنين!

والمؤكد أن قراءة خبير دافوس في هذا الملمح الثالث سوف تجد دليلها في قضيتين؛ إحداهما القضية الدائرة في الوقت الحالي بين إثيوبيا من جانب، وبين مصر والسودان من جانب آخر، والأخرى هي القضية المشابهة بين تركيا من ناحية، وبين سوريا والعراق من ناحية ثانية!

في الحالة الأولى بدت الحكومة الإثيوبية وكأنها تكتشف فجأة أن ماء النيل الذي ينبع من عندها من قديم الزمان، يختلف الآن عما كان عليه من قبل، وأنه ليس الماء الذي ظل قروناً يجري من بحيرة تانا على أرضها، إلى الأراضي المصرية والسودانية. وكذلك بدا الحال في الحالة الثانية مع نهر الفرات الذي يأخذ من الأناضول ليصب في أرض الشام، ومن ورائها بلاد بابل على رأس الخليج!
وفي الحالتين يتدفق الماء من أرض غير عربية لينتهي إلى أرض عربية، ويستقوي الطرف غير العربي فيهما على الطرف العربي!
والقضية هنا ليست بالضبط في تحول الماء إلى سلعة، كما تنبأ قارئ المستقبل في المنتدى العالمي، ولكنها في استخدامه ورقة من بين أوراق لتحقيق أهداف سياسية، سواء على مستوى أنقرة، أو على مستوى أديس أبابا.
لقد قيل كلام كثير عن التفاوض على أمور فنية في «سد النهضة» الإثيوبي، وقيل كلام أكثر عن الفترة التي سيمتلئ خلالها السد، وعن الطريقة التي سيدار بها، ولكن الحقيقة لم تكن هذه أبداً، فالمسائل الفنية بريئة تماماً من كل هذا العجز عن التوافق أو الوصول لاتفاق. ولو

صدقت النية ما استغرق التفاوض ساعة بين العواصم الثلاث!
لو قال قارئ المستقبل في دافوس إن الماء يمكن أن يتحول إلى ورقة لا إلى سلعة، لكان أقرب إلى واقعنا المحيط الذي نراه، ولو أنصفت إثيوبيا لأدركت حقيقة تقول إنه لا ورقة ولا سلعة، وإن الناس في الماء الذي يجري على أرضهم شركاء، وإنها حقيقة قضت بها الطبيعة قبل أن تتجلى في قانون الأنهار!