نديم قطيش

يستسهل بعض الخطاب السياسي الأخلاقوي الدعوة إلى عدم تسييس الأوبئة وسياقاتها. التنبه الطارئ للأبعاد الإنسانية لفكرة الوباء وتأثيراتها، وتجاوزها المفترض للحدود السياسية والإثنية والدينية والعرقية، وغيرها من خطوط القسمة بين بني البشر، يبقى تنبهاً طارئاً، دعوياً تنظيرياً، سرعان ما تغلبه السياسة.
الأوبئة أحداث سياسية ضخمة. كانت هكذا في التاريخ وستظل.
في سنة انتخابية أميركية لا بد للسياسات التي تنتهجها إدارة الرئيس دونالد ترمب، في مواجهة فيروس «كوفيد – 19» (كورونا الجديد) أن تكون مادة طعن من خصومه الديمقراطيين، ومادة تشاوف للجمهوريين على سياسات ماضية للإدارات الديمقراطية في مواجهة أحداث مماثلة مثل «إيبولا».
وفي زمن ما بعد الانهيار الاقتصادي - المالي الهائل سنة 2008، وتمهيده لصعود نخبة سياسية حاكمة، مضادة للعولمة في أوروبا وأميركا، لا بد للوباء من أن يكون مادة للطعن في العولمة نفسها، وفي توازن القوى الذي أرسته بين الصين وبقية العالم. يزيد من «مشروعية» هذا التسييس للوباء وقراءته بعدسة سياسية، أن الصين هي نفسها مصدره ومصدر انتشاره. وكذلك الحال مع إيران التي تعتبر المركز الثاني للوباء، في ذروته.
لكن أبعد من ردود الفعل على الوباء، المحكومة بأحكام مسبقة وجاهزية نفسية وسياسية، الأوبئة أحداث سياسية بامتياز، مهدت عبر التاريخ لتغييرات اجتماعية وسياسية عميقة، شكلت بعضاً من العالم الذي نعرفه اليوم، وجعل منها الفن مادة خصبة للإجابة عن الأسئلة الوجودية المتعلقة بالدين والوجود والهوية الوطنية.
الأحد الفائت غادر البابا فرنسيس الفاتيكان، متوجهاً سيراً على الأقدام نحو كاتدرائية «سانتا ماريا ماجوري»، ثم انتقل إلى كنيسة «سان مارسيلو آل كورسو» التي تضم صليباً عجائبياً سار به المصلون في أحياء المدينة عام 1522، لوضع حد لوباء الطاعون في روما. سار البابا فرنسيس كأنه مطران ميلانو الكاردينال بوروميو في رواية أليساندرو مانزوني (1828) «الخطيبة» التي أرخت للطاعون الذي أصاب عاصمة الشمال الإيطالي، المنكوب حالياً بـ«كورونا». ففي قداسه الأحد، مطلاً على ساحة القديس بطرس الخالية تماماً، استعار البابا من الرواية نفسها دعوة وجهها للكهنة الإيطاليين، بألا يكونوا «دون أبونديو»، الشخصية الجبانة في رواية مانزوني، الهاربة من مسؤولياتها تجاه أهل ميلانو.


أين السياسة؟

تتشابك في حبكة رواية مانزوني، خيوط الطاعون بخيوط الاحتلال الإسباني الشرس لإيطاليا في القرن السابع عشر، كما تحمل دلالات رمزية مناهضة للإمبراطورية النمساوية التي كانت تبسط سلطانها على إيطاليا زمن كتابة الرواية ونشرها. هي رواية عن الطاعون والهوية، وهذا ما جعل مانزوني إحدى المرجعيات الثقافية الرئيسية لموجة «ريسورغيمنتو» التي حررت ووحدت المملكة الإيطالية عام 1861.
في الحقبة نفسها، هزمت الجيوش البروسية نابليون الثالث واعتقلته، واحتل الألمان باريس؛ لكن المدينة انتفضت بقيادة حركة عمالية راديكالية وحكمت العاصمة عبر «كومونة باريس» لمدة شهرين، إلا أن الجيش الفرنسي المتفاهم مع الألمان أنهى التمرد خلال ما يعرف بـ«الأسبوع الدموي». ولكون «كومونة باريس» مبنية حول عصب فقراء المدينة وعمالها المتمركزين في أحيائها الرثة، يربط مؤرخ الأوبئة فرانك سنودن بين وحشية قمع «الكومونة» وقبلها قمع ثورة 1848، وبين ما مثله الفقراء من خطر على الصحة العامة، وتحميلهم مسؤولية موجات الكوليرا التي اجتاحت فرنسا.
الوباء الذي كان نقمة سياسية على «الكومونة»، كان نعمة للهايتيين الثائرين في وجه نابليون بونابرت لإنهاء نظام العبودية. انتشرت الحمى الصفراء، وحصدت عشرات الآلاف من جنود نابليون الذين كانت لهم مناعة العبيد في سانت دومينغ (هايتي المعاصرة) ما أدى إلى هزيمة نابليون وسقوط نظام العبودية عام 1804. كما تراجع القائد الفرنسي عن الاستحواذ على لويزيانا موافقاً على بيعها لتوماس جيفرسون، ما ضاعف مساحة أميركا في حينها.
غير أن النصيب الأكبر من التغييرات التي أحدثتها الأوبئة يبقى للطاعون منتصف القرن الرابع عشر، أو ما يعرف بـ«الموت الأسود». حصد الوباء نحو نصف سكان أوروبا، حتى أن دولة كبريطانيا لم تعد إلى مستوى التعداد السكاني لما قبل الوباء إلا بعد نحو مائتي عام من الطاعون!
سمح تضاؤل عدد السكان الفلاحين العاملين في ظل نظام السخرة، بالمطالبة بزيادة حقوقهم، كما أن زيادة الطلب على العمال أتاحت لهم للمرة الأولى فرصة الانتقال للعمل في ملكيات أخرى، أو ترك الأرياف الزراعية بحثاً عن أعمال مختلفة. أما ارتفاع كلفة الأعمال فدفع أصحاب الملكيات الكبيرة للبحث عن مجالات استثمارية لممتلكاتهم، وتقنيات حديثة للزراعة أقل كلفة من ارتفاع كلفة الفلاحين؛ لكن سرعان ما انهار نظام السخرة، وعم الركود الأعظم في التاريخ. تدريجياً تغير نظام الزواج، وتبدل موقع المرأة في سوق العمل، مع انفتاح مجالات جديدة أمام الفلاحين السابقين لا تتطلب البنية الجسدية التي تتطلبها أعمال الفلاحة. زرع الطاعون بذور تغييرات اجتماعية واقتصادية وتقنية، ستمهد لاحقاً للثورة الصناعية بعد 4 قرون.
أزمة الكنيسة الكاثوليكية سابقة على الطاعون؛ لكن «الموت الأسود» دفع بالأسئلة الوجودية إلى مدياتها القصوى، حول العلاقة بالموت والحياة والعدل، والحكمة من المعاناة. ولأن الموت حصد أعداداً هائلة من الرهبان ورجال الإكليروس الذين عرضوا حياتهم للخطر نتيجة الصلاة على الموتى أو الأدوار العلاجية التي كانت تتولاها الكنائس، خرجت الكنيسة منهكة من تجربة الطاعون الذي مهَّد للثورة البروتستانتية، حتى ما عادت المسيحية إلى ما كانت عليه يوماً.
غيرت الأوبئة مسارات التاريخ والسياسة والاجتماع والفن. تدخلت في تعديل الذائقة الجمالية، كما فعل مرض السل مع ترسيخ النحافة والشحوب في العهد الفيكتوري (النصف الثاني من القرن التاسع عشر) كمعايير جمالية مستمرة إلى اليوم، أو ما فعله الطاعون مع صورة الموت في لوحات القرون التي تلت!
لـ«كورونا» تأثيرات بهذا الحجم ولو بموت أقل، أبرزها تصاعد مشروعات اليمين المعادي للعولمة والمهاجرين والتجارة الدولية بتوازناتها الحالية، وتفاقم حلول التكنولوجيات مكان العلاقات البشرية.