عبدالله السناوي

في أوقات الشدة تتأكد الأهمية القصوى للتماسك الواسع، أن يثق المواطنون بأنفسهم وبأنهم قادرون على تجاوز أي أخطار محدقة تتهددهم في وجودهم.
في توقيت واحد تتداخل أزمتان كبيرتان في المشهد المصري، أزمة تفشي وباء «كورونا» المستجد، التي تضرب العالم بأسره تفزيعاً وترويعاً، وأزمة «سد النهضة» الإثيوبي بعد أن وصلت مفاوضاته إلى طريق مسدود ينذر بتداعيات يصعب حصر مخاطرها.

في غضون الأشهر الثلاثة المقبلة تتزاحم التحديات على جدول الأعمال، تفرض أولوياتها، وتستدعي مقاربات مختلفة وإعادة نظر في مجمل الأوضاع والسياسات حتى يتسنى للبلد أن يواجه أزمتيه المتداخلتين، التي لا يمكن تأجيل إحداهما بذريعة مواجهة الأخرى.
اتخاذ ما هو ضروري من إجراءات احترازية لمواجهة تفشي الوباء أولوية لا شك فيها صوناً لصحة وحياة المواطنين، وتخفيضاً لأي كلفة اقتصادية باهظة متوقعة.
تداخل أزمتي «كورونا» والمياه تكاد تقارب القصد المصري القديم من إطلاق صفة الشدة على سنوات نقص مياه النيل وتفشي المجاعات والأوبئة في ربوع الوادي.
أحد الأسئلة الجوهرية التي تطرح نفسها الآن بإلحاح على المفاوض المصري: هل الموقف الإثيوبي استراتيجي أم تكتيكي؟
بصياغة أخرى: هل هو نوع من التعبئة الداخلية قبل الانتخابات المنتظرة أو نوع آخر من المماطلة لتحسين الشروط التفاوضية؟
لا يصح القفز إلى الاستخلاصات الأخيرة قبل استيفاء تعقيدات الصورة عبر دبلوماسية نشطة على كافة المحاور، تشرح الموقف موثقاً لسير المفاوضات المصرية السودانية الإثيوبية على مدى خمس سنوات وتستجلي ما خلف البيانات المعلنة للأطراف المتداخلة.
الخارجية المصرية تتحرك بهمة لافتة في هذا الملف أملاً في توفير بيئة عربية وإفريقية ودولية ضاغطة تمنع انفجار الأزمة، بما يهدد يقينا السلم والأمن الدوليين.
المشكلة الحقيقية الآن أن الأطراف الفاعلة، التي يمكن أن توفر هذه البيئة الضاغطة منشغلة بأولوية وباء «كورونا» المستجد في بلدانها.
بدواعي الفزع والخوف من آثار وتبعات الوباء هناك حالة هدنة دولية غير معلنة، تكبل إلى حد كبير الحركة الدبلوماسية، حيث تتراجع الأدوار الدولية لمصلحة الأوضاع الداخلية.
بقدر ما تتعرض له مصر الآن من شدة مزدوجة، الوباء المتفشي ونقص المياه المحتمل، فإن حاجتها مضاعفة لاكتساب أكبر قدر ممكن من التماسك الداخلي، وخفض الاحتقانات، وتنقية الأجواء السلبية.

تصحيح الصورة من ضرورات اكتساب أوسع تضامن دولي ممكن في ما تتعرض له من مخاطر يؤهلها لاتخاذ ما تراه ضرورياً للحفاظ على حقوقها وهيبتها لمنع ملء سد النهضة انفرادياً.
بدواعي أزمتي الوباء والمياه تتبدى ضرورات التماسك، لكن: كيف؟ وبأي وسائل؟ إعادة ترتيب الأولويات وتصحيح السياسات مدخل ضروري لأي تماسك وطني لازم حتى يتأكد المواطنون العاديون من أن التحديات الماثلة تخصنا جميعاً، حياتنا ومصيرنا ومستقبلنا معاً.
نحتاج إلى ردم فجوات الثقة بالشفافية واستعادة حرمة الكلمة واحترامها في الإعلام بتوسيع الحريات والانفتاح على التنوع الطبيعي في المجتمع، واستدعاء كل ما في البلد من كفاءات ومواهب لتضطلع بواجبها في الدفاع عن مصيره ومستقبله.
يقيناً إن إخلاء سبيل 15 من الشخصيات العامة والأكاديمية والشابة المحبوسين احتياطياً على ذمة تحقيقات نيابة أمن الدولة العليا خطوة صحيحة تردد صداها الإيجابي على شبكات التواصل الاجتماعي، كما لم يحدث منذ فترة طويلة.
هذه مجرد خطوة على الطريق الصحيح، تستدعي بالضرورة إفراجات أخرى أوسع مدى لرفع أي مظالم، أشار إلى وجودها الرئيس نفسه في أكثر من حديث، ودرء أي أخطار على حياة المحتجزين في السجون من تفشي الوباء.
اتساع الأفق السياسي من أصول التماسك الوطني واستدعاء الهمة العامة في مواجهة الشدة الماثلة.
لم يكن صحيحاً ولا ضرورياً ولا لائقاً احتجاز أربع أكاديميات ناشطات، بينهن الدكتورة «أهداف سويف»، وهي أديبة معروفة في العالم تحتفي بما تكتبه كبريات الصحف البريطانية، بتهمة التظاهر أمام المجلس النيابي للمطالبة بالإفراج عن المحبوسين احتياطياً.
في أوقات الأزمات الكبرى يستدعي المصريون أفضل ما فيهم دفاعاً عن وطنهم ومصيرهم المشترك، وعن معنى الحياة نفسها.
هذا وقت التماسك الوطني، ضروراته ضاغطة وأصوله غير خافية، حتى يمكن للبلد أن يمسك مصيره بيديه.