عقل العويط
تدروشتُ ليل أمس ونزلتُ إلى الشارع. قلتُ في نفسي لم أعد أستطيع. لا بدّ من معاينة ما يجري في الخارج – قليلًا فقط - بعد طول انحباس.

خرجتُ بلحيتي المتطاولة، وبالكمّامة طبعًا، باحثًا عن "حرّيّةٍ" موازية، لم أفتقدها البتّة في الاعتزال، لاعتقادي اليقينيّ أنّ الحرّيّة الحقيقيّة العظمى التي لا توازيها حرّيّة، هي حرّيّة الإقامة في مناطق الرأس، غير القابلة للترويض والترويع والتمريغ.

كانت الساعة في نحو الحادية عشرة والنصف قبيل منتصف الليل.

لم يكن ثمّة في الجوار ما يدلّ على حركةٍ ما، على تجوالٍ، ولا على حياة.

هواءٌ قليلٌ فحسب. هواءٌ طريٌّ منعشٌ ولذيذٌ، يذكّر بالأمكنة الخلاء، التي لطالما كنتُ ألجأ إلى معناها الدلاليّ من أجل توسيع الحياة، وترميم ما يطرأ عليها من كسور.

وكان ثمّة في ليل أمس، صمتٌ عميمٌ للغاية.

صمتٌ لا يُشبَّه بشيءٍ آخر سواه.

لا أحد. لا أحد في الجوار. لا صوت. لا قطّة. لا مواء. لا جرذ. لا عواء. لا هسيس. لا خشخشة. لا همهماتٌ ولا حواراتٌ تصل أنسامها من بعيد. لا شيء. لا شيء البتّة على الإطلاق.

ثمّ فجأةً، "ظهر" على الجهة المقابلة من الشارع، رجلٌ متدروشٌ، طاعنٌ في السنّ، كثيرًا أو قليلًا، لا أدري. لم أتبيّن عمره بالتمام، بسبب قلنسوةٍ عتيقةٍ كان يعتمرها، وكمّامةٍ على الوجه، ويدين "مكفّفتين" تحملان كيسًا.

عرفتُ أنّه طاعنٌ، لانحناءةٍ متقوّسةٍ في الظهر. والمرء يستدلّ على الأحوال، أحيانًا، لا بالأوصاف الدقيقة والوقائع فحسب، إنّما بدلالاتها، والرموز، والإيحاءات.

لم يطل استغرابي.

كان الرجل قد خرج في تلك الساعة، باحثًا عن "رزقه".

باحثًا عن "رزقه" في براميل النفايات.

حاولتُ أنْ أبقى بعيدًا عن ناظريه، لئلّا أخدش حرّيّته تلك، حرّيّة البحث عن "الرزق" الذي ليس متوفّرًا له بطرقٍ أخرى.

لا يهمّني أنْ أستثير الشفقة. فالمشهد هذا، ليس نادرًا في بلاد هذا الحكم وهذه الحكومة.

لطالما كنّا، في الظروف والأيّام العاديّة، نعاين فقراء ومحتاجين يعكفون على المكبّات والمطامر وبراميل النفايات، بحثًا عن فضلات طعام، أو عن حراتيق.

ليس هذا بالمستغرب في بلاد الودائع والأموال المنهوبة والمسروقة والمهرّبة.

لكنْ، "جرحني" مشهد الدرويش الليليّ، عاكفًا على فضلات الناس، قبيل منتصف ليل أمس.

جرحني ومسّني في الصميم، مشهدُ الرجل هذا.

ثلاث ملاحظات، يمكنني أنْ أسجّلها في هذا السياق.

الأولى أنّ المشهد الذي أروي وقائعه لم يكن في منطقةٍ نائيةٍ أو فقيرةٍ، ولا حتّى متواضعة. بل في العاصمة الراقية بالذات، حيث يقيم أهل الحكم والحكومة عمومًا، وكبار المصرفيّين، ورجال المال والأعمال، وأصحاب الودائع المهرّبة.

الملاحظة الثانية، أنّ الدرويش الباحث عن "رزقه" الليليّ، لم يعثر على شيءٍ يُذكَر في القمامة، فقفل عائدًا إلى خيبته المريرة، مقوّس الظهر، مطأطئًا.

أمّا الملاحظة الثالثة، فيهمّني جدًّا جدًّا أنْ أنقلها إلى القارئة والقارئ، وهي تخصّ الدرويش الذي أنا، والذي خرج باحثًا عن حرّيّةٍ موازيةٍ ومضافة خارج حدود الحجر الوقائيّ في المنزل وفي الرأس، فلم... يعثر على أثرٍ لهذه الحرّيّة المسروقة!

لا بأس. لا بأس. قال الدرويش الثاني (الذي أنا) لنفسه.

الحرّيّة المسروقة سنستعيدها قريبًا. قريبًا جدًّا. وإنّ غدًا لناطره قريب!