لا يبدو أن أحداً محصن من فيروس «كورونا». وتحاول كل دولة تحديد سياسة كبح انتشاره والإيحاء للرأي العام بأن الأمور تحت السيطرة. وربما لن يتضح الحجم الحقيقي للضرر إلا بعد القضاء على الفيروس عندها يمكن للعالم تقييم النطاق الكامل لما يبدو بالفعل أنه أزمة مخيفة قاتلة.
ورغم محاولات معظم الدول إخفاء حجم الظاهرة، فقد أصبح واضحاً للجميع أن الوضع صعب. مثلاً أنه رغم التقارير الإيرانية الرسمية لمنظمة الصحة العالمية، تشير التقارير الواردة من إيران بأن لديها أكبر عدد من الحالات في العالم، مع أكثر من عشرة آلاف حالة وفاة (نسبياً أكثر من الولايات المتحدة). وهذا أمر ممكن لبلد مثل تركيا كونها مركز حركة جوية وبرية عابر للقارات ويبلغ عدد سكانها أكثر من 83 مليون نسمة.
وبحسب التقارير الرسمية المشكوك في موثوقيتها، نجحت تركيا ظاهرياً لفترة طويلة في منع انتشار الوباء جماعياً، رغم المعابر الحدودية إلى أوروبا وآسيا والشرق الأوسط والمطارات الكبيرة التي لا تزال تعمل. تم الإبلاغ عن أول حالة من الإصابة بفيروس «كورونا» في 9 مارس (آذار)، أي بعد حوالي شهر من وصولها بالفعل إلى الدول المجاورة. ثم تبين أن عدد الإصابات التي تم الإعلان عنها في تركيا منخفض بشكل يثير الريبة لدولة تشكل أكبر محاور حركة المرور في العالم، وهذا على الأرجح نتيجة للرقابة المكثفة المتعمدة في التسجيل الذي تعتمده وزارة الصحة التركية.
تهدف سياسة السلطات التركية التي تقترب من عدم المبالاة إلى إعطاء انطباع بأن العمل كالمعتاد وذلك لتجنب الانهيار التام لصناعة السياحة في البلاد. إذ تعتبر تركيا واحدة من أفضل 10 وجهات سياحية في العالم، والعائدات من هذا السوق هي مصدر أساسي للعملة الأجنبية. وحتى وقت قريب جداً، كانت تركيا أيضاً أحد آخر المعاقل المتبقية في صناعة السيارات، فقد واصلت الشركات المصنعة للسيارات بما في ذلك «تويوتا» و«رينو» و«فورد» الإنتاج في تركيا التي رغم اعتبار نفسها دولة أوروبية كانت تعتقد أنها بعيدة عن الوباء. ومع ذلك أعلنت شركات تصنيع السيارات مؤخراً أنها ستغلق مصانعها في الأسابيع القليلة المقبلة.
أفسحت لا مبالاة السلطات المجال للخوف في شأن الآثار الاقتصادية للأزمة في تركيا. ووعد رجب طيب إردوغان رئيس الجمهورية بتقديم حزمة مساعدات بقيمة 150 مليون دولار، لكن هذا لم يمنع بورصة الأوراق المالية التركية من الانهيار أو انخفاض قيمة الليرة التركية. وفي خطاب جماهيري زعم إردوغان أن تركيا يجب أن تستمر في تحريك عجلات اقتصادها، ثم وعد بأنه سيتبرع براتبه عن سبعة أشهر للاقتصاد ويبلغ مجموعه 86 ألف دولار، وبالطبع هذا لن ينقذ الاقتصاد التركي الذي سيستمر وضعه على الأرجح في التدهور مع تفاقم أزمة الفيروس. ومع ذلك من المهم أن نتذكر أن الأزمة الصحية ليست هي من عرّض الاقتصاد التركي للخطر. التقرير الذي صدر العام الماضي عن «مجموعة العمل المالية» (FATF) التي تكافح عمليات غسل الأموال وضعت تركيا على «القائمة الرمادية» للدول التي لها نشاطات في تمويل الإرهاب، نظراً لافتقارها إلى تطبيق منظم أو أدوات التعامل مع غسل الأموال وتمويل الإرهاب.
إن استجابة تركيا لوباء «كورونا»، كان كارثياً من خلال إدارة الأزمة التي بدأت تلاقي رد فعل عنيفاً في جميع أنحاء البلاد... إنها تفتقر إلى أي خبرة في إدارة الأزمات؛ فلم يحصل أي تطور يجعل أنقرة هذه المرة تفعل ما هو أفضل؛ إذ كما ذكرنا اعترفت الحكومة متأخرة بخطورة الفيروس وتأخرت بإجراءات حظر التجول، واعتمدت سياسة إنكار منهجي للمصادر الرئيسية للإصابة، وبرز نقص خدمات الصحة العامة التي استنزفتها الحكومة لصالح القطاع الخاص، وتم الضغط على الأطباء لتفادي ذكر أن الفيروس هو سبب الوفاة، وظلت تتجنب الشفافية في الحقائق والأرقام عند الإبلاغ عن انتشار الفيروس، وفشلت في استشارة الجمعيات الطبية المستقلة، وحرمت البلديات من السلطات التي تحتاجها لمكافحة الوباء.
من المسلم به الآن أن إردوغان لم يأخذ الوباء على محمل الجد، بل اكتفى بأمرين يأخذهما على محمل الجد: اقتصاد هش، ولهذا حظر أي إغلاق شامل، وسياسة خارجية قسرية مستمرة وكأن ليس هناك من وضع غير عادي.
وعودة إلى تقرير (FATF)، فقد اتضح أنه مع بدء ظهور التقارير من الصين حول الفيروس في ديسمبر (كانون الأول) الماضي، كان الرئيس إردوغان يجتمع مع زعيم «حماس» إسماعيل هنية في مكتبه. فبعد توقف عامين من تمويل تركيا لـ«حماس» بمبلغ 100 مليون دولار سنوياً في السنوات الأخيرة، حوّل إردوغان ملايين الدولارات نقداً إلى وفد «حماس» في وقت يحارب العالم فيروس «كورونا» ويحاول توفير كل قرش لمواطنيه سواء لأجهزة التنفس أو أحزمة الدعم المالي، وظهر أن تركيا و«حماس» تستغلان الموقف بسخرية.
القلق الحقيقي هو أن هذه ليست سوى البداية، فهذه ليست عملية تحويل لمرة واحدة لكنها تشير على ما يبدو إلى تجديد قناة تمويل الدولة التركية لـ«حماس» في الأشهر المقبلة، إذ يحاول إردوغان إعادة تعويم نفسه كزعيم للعالم السني بشكل عام و«الإخوان المسلمين» على وجه الخصوص، الذي تنتمي إليهم «حماس». التمويل هو دفعة كبيرة لهذه الحركة الموضوعة على قائمة الإرهاب، لكنه سيعيق جهود الاقتصاد التركي من أجل البقاء في حالة الطوارئ الحالية. ما يزيد الطين بلة هو أن معظم الأموال مخصصة لاحتياجات «حماس» العسكرية وليس للأغراض الإنسانية أو للنظام السياسي لـ«حماس» التي تفرض سيطرتها على أكثر من مليون فلسطيني في قطاع غزة الذين يكافحون ضد الفقر وهم قلقون بشكل مبرر من إمكانية تفشي فيروس «كورونا» في القطاع، لا سيما إذا أخذنا في الاعتبار البنية الطبية الهشة هناك التي تعاني من نقص حاد في المواد التي وجهتها «حماس» لبناء قدراتها العسكرية وحفر الأنفاق.
إن توفير تركيا لهذه الأموال يضعها في منافسة مع إيران و«فيلق القدس» الداعمين الرئيسيين لـ«حماس» على مدى العامين الماضيين (عندما قصرت تركيا).
إذا واصلت تركيا سياستها المتحدية، وهي العضو في الحلف الأطلسي، بتمويل حركة أعلنتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي منظمة إرهابية، فإن وضعها لن يكون مختلفاً عن وضع إيران. ومن المرجح أن تجد نفسها تحت العقوبات الاقتصادية في وقت تكافح لإيجاد حلول لمواطنيها في ظل أكبر أزمة إنسانية في تاريخها.
في هذه الأثناء سيظل مواطنو تركيا وغزة يدفعون ثمن أولويات أنظمتهم المنحرفة عن مسار الواقع، لأن الأزمة الاقتصادية المتصاعدة ستضاعف العدد المتزايد للمرض والقتلى.
ندرك أن «حماس» لن تعرف طريقها، لكن متى ستعرف تركيا إردوغان ماذا تريد؟