في مجابهة العالم بأسره محنة وباء «كوفيد - 19» (كورونا)، تُفتح معارك جانبية لا علاقة لها بالجهود المشتركة والأبحاث المتسارعة من أجل إيجاد لقاحات وعلاجات.
وكما لو كانت المعاناة الإنسانية الفظيعة لا تكفي، وكان الانهيار الاقتصادي مسألة فيها نظر، نجد أن ثمة مَن يريد فتح جبهات جانبية تتراوح بين اللوم والتشكيك والتغطية على التقصير هنا وهناك.

أعتقد أن الكلمة الآن يجب أن تترك إلى العلماء، لأن الساسة وأهل المصالح الاقتصادية احتكروا الساحة طويلاً، ونالوا ما لا يستحقونه من النفوذ، وحان الوقت – إلى أن تنقشع سحابة الوباء الداكنة – لكي يفسحوا المجال لغيرهم من أهل العلم والاختصاص... والضمير طبعاً.
نعم، بينما يجعجع الساسة، فيزايد بعضهم على بعض، ويتسابقون على إخفاء أخطائهم وإهمالهم... يعكف علماء من مختلف الجنسيات، بصمت وصبر، على العمل في مختبراتهم ومستشفياتهم من أجل إنقاذ ملايين البشر.

المدافن الجماعية في مدينة نيويورك أبلغ من أي تعليق. ومشاهد جادة الشانزيليزيه في «مدينة النور» باريس خالية موحشة... صورة سوريالية لا تصدق. وصمت لندن «قطب» التجارة والخدمات في ظل تقييد التجول... كآبة مجسّدة.
في الشرق كما في الغرب، في آسيا كما في أفريقيا والأميركتين... لا كبير ولا صغير، ولا غني ولا فقير أمام خطر الوباء.

الخسائر في كل قطاع، في كل الدول الصناعية، بلغت عشرات المليارات من الدولارات. وتدابير الإغاثة والتعويضات تكاد تعادلها، وسط علامات استفهام حول طول فترة الانتظار والتداعيات المحتملة على المدى البعيد، وأي مجتمعات ستخرج من هذا الامتحان الإنساني العسير.
المسألة إذن أكبر بكثير من مناكفة وتسجيل نقاط متبادل. ولنبدأ من حيث بدأ كابوس الوباء. لنبدأ من الصين.
أنا آخر مَن يزعم أن النظام الصيني نموذج عالمي يُحتذى...

سواءً من حيث الحجم أو طبيعة المجتمع أو الفكر السياسي أو منظومات القيَم والمُثُل، أستبعد أن يكون بمقدور الصين أن تروي ظمأ الذين اعتادوا على مبادئ الحريات الشخصية وحقوق الإنسان والتعددية السياسية. وفي موضوع الشفافية بالذات، أتفهم تماماً سبب التشكيك الدائم في الأرقام التي تعطيها السلطات الصينية عن الإصابات وأرقام الوفيات ونسب الشفاء.
أيضاً أتفهم سلبيات الميل القمعي الذي هو إحدى سمات العديد من المجتمعات في الشرق... والغرب أيضاً. وأعرف جيداً أن الانتقال من بيئات ريفية إلى نظام شيوعي شمولي – عسكريتاري، يعتبر مفاهيم الديمقراطية الغربية دخيلة على تراثه، إنما هو جزء لا يتجرأ من هوية العملاق الصيني.
هذا العملاق الخارج من سباته متعجل على لعب دور كوني يرى أنه تأخر أكثر مما ينبغي.

ولمن لا يزال ينظر إلى الصين، وأيضاً إلى روسيا، على أنهما نصيرا المستضعفين في هذا العالم، وأنهما لا تتحركان إلا بهدي المثالية الاشتراكية، عليه ألا ينظر أبعد من «الفيتوهات» التي استخدمتها كل منهما إبان محنة الشعب السوري منذ 2011. صحيح روسيا كانت في الواجهة، لكن الصين كانت معها في خندق واحد دفاعاً عن النظام ضد شعبه. والشيء نفسه، يقال عن موقفي بكين وموسكو الداعمين للنظام الإيراني الثيوقراطي الكاتم لأنفاس شعبه، بينما تعلنان أنهما في طليعة القوى المناوئة للتشدد الديني والإرهاب!

في المقابل، أتفهم أن صعود الصين مقلق للقوى العالمية المنافسة. وفي صراع توسيع النفوذ تغدو «الصداقات» تعبيراً تكتيكياً واهياً، يصدق في مكان ولا يطبق في مكان آخر.
للصين وروسيا مصالح مشتركة عديدة في عدد من مناطق العالم في وجه عدو مشترك اسمه الولايات المتحدة. لكن لدى واشنطن وموسكو، أيضاً، أهداف ومصالح مشتركة ضد بكين في مواضع ومجالات أخرى.

اللاعبون الثلاثة الكبار ليسوا «حلفاء» بالمعنى الدقيق للكلمة، بل متنافسون بمعايير ومقادير تفرضها المصالح. ولعل خير الأدلة وأبسطها المواقف التي دأب الرئيس الأميركي دونالد ترمب على «ترويجها» لجمهوره عن أن «الخطر الحقيقي على أميركا يأتي من الصين وليس من روسيا»، وهذا حتى في عز حملة اتهام الديمقراطيين لموسكو بالتدخل في الانتخابات الرئاسية لمصلحة ترمب والجمهوريين.

ترمب، الذي يمارس السياسة كمُضارب بورصة يعيش حملة انتخابية لا تنتهي، يخوض فعلياً حرباً مباشرة ضد الصين. وفي هذه «الحرب» يقف معه طيف واسع من تيارات اليمين العالمي وساسته وإعلامييه، خصوصاً، بعدما رفع السقف كثيراً في سنة انتخابية استثنائية سيكون وباء «كوفيد - 19» ناخباً مؤثراً جداً.

بدايةً، يصر ترمب على وصف الوباء بـ«الوباء الصيني»، مع أن لا أحد – حسب علمي – وصف «الإيدز» بالوباء الأفريقي أو الأميركي مثلاً.

ثانياً، فتح الرئيس الأميركي معركة مباشرة ضد شخص مدير منظمة الصحة العالمية، واتهمه بمحاباة الصين والتواطؤ معها في التستر على بداية انتشار الوباء. مع أن الرجل، ولو كان وزير خارجية أفريقياً سابقاً، ولديه خطه السياسي المعروف، مدير هيئة دولية تضم خبراء واختصاصيين من مختلف دول العالم. بل، بين كبار معاونيه وكانت دائماً تظهر بجواره في مؤتمراته الصحافية خبيرة صحة عامة أميركية مرموقة.

ثالثاً، صحيح أن الصين تأخرت شهراً كاملاً عن إبلاغ المجتمع الدولي بعد ظهور الوباء في ديسمبر (كانون الأول) الماضي، علماً بأنها ما كانت تعرف عنه الكثير. لكن الصحيح أيضاً أن دول أوروبا الغربية والولايات المتحدة عرفت عن الوباء ما فيه الكفاية منذ يناير (كانون الثاني) واستخفت به، فلم تتخذ قرارات العزل والإغلاق، إلا بعد تفاقم الكارثة.
رابعاً، أن ترمب، شخصياً، ما كان ليتحرّك جدياً لولا ارتفاع عدد الإصابات والوفيات وشجاعة بعض مستشاريه الذين خالفوه علانية، مثل الدكتور أنتوني فاوتشي.

أخيراً، العالم بحاجة ماسة للوحدة والتضامن وصدق النيات في مثل الظرف الحالي. وهو أيضاً بحاجة لإبقاء التعاون الدولي والمؤسسات الدولية بمنأى عن تجاذبات السياسة الشعبوية. وبقاء منظمة الصحة العالمية خارج المُناكفات أكثر من ضرورة مع احتمال توسع رقعة انتشار الوباء في مناطق شاسعة فقيرة ومكتظة سكانياً من العالم.
يكفينا مقاطعة اليونيسكو وتجاهل قرارات مجلس الأمن الدولي وإدمان التسلي بـ«الفيتو».
لا حاجة لجعل الوباء القاتل أيضاً... لعبة سياسية.
إن شعوب العالم - بعد هذا الوباء - بحاجة حقاً إلى عالم أكثر إنصافاً وعطفاً وصدقاً وإنسانية.