قبل مئة وخمسة أعوام، بدأت عملية إبادة منظمة للأرمن في تركيا والتي بات الأرمن يحيون ذكراها في الخامس والعشرين من إبريل/نيسان من كل عام. وهي المجازر التي ارتكبها قادة جمعية الاتحاد والترقي المتمثلة بالثلاثي طلعت باشا وزير الداخلية وأنور باشا وزير الحربية وجمال باشا الملقب بالسفاح وزير البحرية. لم تحدث المجازر دفعة واحدة؛ بل بدأت في 25 إبريل عندما اعتقلت السلطات العثمانية مئات المثقفين الأرمن وقتلت معظمهم ومن ثم كرّت موجة استهداف الأرمن في الدولة العثمانية على مدى أشهر؛ بل سنوات بذريعة أنهم عصاة على السلطة لمصلحة طرف خارجي هو روسيا القيصرية قبل أن تندلع الثورة البولشفية في عام 1917 وتطيح بالقيصر. لكن بعد هزيمة الدولة العثمانية النهائية في عام 1918 هرب «الباشوات الثلاثة» كما كان يطلق عليهم.

لكن الأرمن انتقموا للمجازر بأن قتلوا قادة التهجير والإبادة واحداً تلو الآخر. وخلال 17 شهراً بين مارس 1921 وأغسطس 1922 كانوا قد اغتيلوا ثلاثتهم.

أول المستهدفين كان طلعت باشا الذي قتله شاب أرمني في برلين في 15 مارس 1921 وهو الذي أصدر برقيته الشهيرة إلى والي حلب في 9 سبتمبر 1915 والذي يقول فيها إنه من اليوم فصاعداً ليس للأرمن أي حق في العيش والعمل.
الهدف الثاني للأرمن كان جمال باشا السفاح الذي اغتاله أيضاً فدائيان أرمنيان في تبليسي عاصمة جورجيا في 21 يوليو 1921.

ومن بعدهما جاء دور انور باشا الذي قتل بعد سنة في 4 أغسطس 1922 خلال شجار في قرية في طاجكستان. وهو الوحيد الذي لم يسقط بيد أرمنية.

وكالعادة تذكّر الأرمن إبادتهم هذه السنة. وفي كل عام كانت الأنظار تتجه إلى الولايات المتحدة والموقف الذي يمكن أن يطلقه الرئيس الأمريكي، وما إذا كان سيعترف بحصول إبادة أم لا.

اعترف عدد كبير من الدول بشكل رسمي بأن ما حصل كان إبادة. أي أن الذين قتلوا أو هجروا خلال الإبادة لم يكونوا ضحية حروب بين الدول؛ بل بأمر رسمي من السلطة المركزية.
وعلى الرغم من كل اعترافات الدول، فإن الولايات المتحدة الأمريكية لم تكن من بينها. وهذا قد يثير دهشة واستغراب البعض باعتبار أن اللوبي الأرمني قوي في الولايات المتحدة والأهم أن الولايات المتحدة ترفع لواء الحرية والديمقراطية وخصوصاً حقوق الإنسان. وتحت يافطة حقوق الإنسان تدخلت الولايات وشنت الحرب تلو الأخرى ضد شعوب ودول. لكن هذه الحروب كانت تقف عند باب القضية الفلسطينية والقضية الأرمنية.

لا ندعو الولايات المتحدة إلى دعم القضية الأرمنية من منطلق ديني لأن القضية الأرمنية هي قضية حق إنساني وعدالة تتجاوز الحساسيات الدينية أو العرقية وهي قضية كل الشعوب التي تدافع عن العدالة والإنسانية.
ولربما من هذه الزاوية كان الموقف الأمريكي طبيعياً بعدم الاعتراف بالإبادة الأرمنية لأن الإدارة الأمريكية تقدم المصالح على المبادئ والأخلاق. ذلك أنه منذ مئة وخمسة أعوام كانت هذه الإدارة تصف ما جرى بأنه كارثة كبرى وتنفي عن المجازر بأنها كانت مدبرة بقرار رسمي عثماني. وإذا كان الدافع الأمريكي يبرر ضمناً بأنه لعدم إغضاب تركيا العضو في حلف شمال الأطلسي، فإن العديد من دول الحلف تعترف بالإبادة الأرمنية ومنذ وقت طويل، فلماذا لم تخش هذه الدول غضب تركيا؟

في الخريف الماضي وافق مجلس النواب الأمريكي وتلاه مجلس الشيوخ وبأغلبية ساحقة غير مسبوقة على مشروع قرار باعتبار أحداث 1915 الأرمنية إبادة، لكن المشروع سقط باعتراض الرئيس الأمريكي دونالد ترامب. وعشية ذكرى 25 إبريل هذه السنة وبعدها، علت مواقف منددة بالإبادة الأرمنية من قبل رئيس لجنة المخابرات في مجلس النواب الأمريكي آدم شيفت وشيوخ آخرين. لكن كل هذا لم يكن يعني شيئاً في عدم اعتراف الرئيس الأمريكي (اكتفى بالإدانة) هذه السنة كما في كل سنة بحدوث إبادة.

إذا أردنا أن نفتش عن الحقيقة فلن نجدها أبداً في سياسات الولايات المتحدة المنحازة للظالمين، لاسيما في فلسطين وفي تركيا.