لم يكن وباء كورونا وبالاً على العالم في مختلف تأثيراته؛ فمن إيجابياته أن ارتفعت نبرة العلم، وزاد اهتمام الناس بما يجري في أروقته من أدوية أو أبحاث جديدة. وقد اتضحت لدول كثيرة أن الأدوية عالم آخر متجدد، ويكتنفه الغموض، ولا بد من المشاركة فيه من أجل فهم أسراره؛ لذلك جاء تأسيس منظمة الغذاء والدواء السعودية في محله، لكنها ما زالت في مراحل مبكرة، وتحتاج إلى أن تأخذ بزمام المبادرة..

ليس من الصحيح أن تكون مجرد وكالة للأخذ بما تمليه عليها منظمات الغذاء والدواء في أمريكا أو أوروبا، ولا بد من القيام بالدور الوطني في الاعتماد على دراسات بحثية داخلية للأدوية قبل السماح لها، وهذا هو ما تقوم به الدول المتطورة خارج منظومة منظمة الغذاء والدواء الأمريكية، مثل اليابان والصين وكوريا الجنوبية وأستراليا، التي تقوم بأبحاثها، ولا تعتمد على الآخرين..

فقد اتضح للجميع الصراع حول الأدوية الأكثر فاعلية ضد كورونا، وظهر ذلك فيما يجري الآن بين دواء الملاريا الهيدروكسي كلوروكوين القديم، والعلاج الأمريكي الريمديسفير، الذي تنتجه شركة جلعاد، والمدعوم من قِبل المنظومة الاقتصادية الأمريكية، بالرغم من أن نتائج الأبحاث تدعم الأول أكثر، سواء من ناحية السلامة أو التجارب وخبرات الأطباء.

لكن الفرق بينهما أن دواء الملاريا خارج الاحتكار؛ ويُباع بسعر زهيد، بينما الآخر لا يزال يخضع للاحتكار، والشركة تبحث عن تسويق جديد له بعد فشله في وباء آيبولا في إفريقيا.. ومن خلال هذه الزاوية الصغيرة قد نفهم ما يجري خلف الكواليس في سوق الأدوية..

ما نحتاج إليه في هذه المرحلة هو مؤسسة في إطار المعهد الوطني للصحة الأمريكي (NIH)؛ فهي الوكالة الأساسية لحكومة الولايات المتحدة، المسؤولة عن أبحاث الطب الحيوي والصحة العامة، وقد تأسست في أواخر الثمانينيات من القرن التاسع عشر، وهي الآن جزءٌ من وزارة الصحة والخدمات الإنسانية بالولايات المتحدة، ومهمتها إجراء أبحاثها العلمية الخاصة بها من خلال برنامجها البحثي الداخلي.

ومن مهامها الرئيسية التجارب السريرية، وهي دراسات بحثية، تتضمن أشخاصًا، وتختبر طرقًا جديدة للوقاية من الأمراض أو اكتشافها أو تشخيصها أو علاجها، والعديد من الإجراءات والعلاجات الطبية المستخدمة اليوم هي نتيجة التجارب السريرية السابقة.

وتقوم بدور كبير في الاكتشافات العلمية في مجال الطب، ومن خلال دراساتها وأبحاثها تظهر جدوى أو عدم جدوى بعض الأدوية، وربما تأثر دورها قليلاً بسبب دخول الدعم التجاري للأدوية والأبحاث، لكنها ما زالت وجهًا مشرقًا في تاريخ الطب الحديث الأمريكي.

لهذا السبب قد نكون في مرحلة الحاجة إلى NIH سعودية، والاعتماد على قدرات وطنية، واستقطاب خبرات أجنبية كأفراد، خارج منظومة العقود التجارية مع الشركات. وأثبتت التجارب أن إغراء بعض العقول لنقل التجربة إلى الوطن أكثر نفعًا، وبمرور الوقت سنكون المرجعية الأهم في المنطقة، وقد تخرج منها اكتشافات وبراءات اختراع، وسيكون لها مردود علمي واقتصادي على البلاد.