في مصادفة لم أخطط لها، كان لقاءً بالأستاذ تركي عبدالله السديري برفقة الأستاذ سليمان العصيمي بـ «شيراتون القاهرة»، ورغم أن لي لقاءات بمناسبات مختلفة وأحياناً متباعدة معه، فإن هذا اللقاء كان حاسماً في زمالة تطورت إلى صداقة حميمة..

سألني لماذا لا تعود للكتابة فنحن نرحب بك بجريدة الرياض؟.

قلت إن الكتابة مكلفة نفسياً، وصعوبتها أن الكاتب تحت الرقابة المعقدة التي قد تفضي إلى المنع أو السجن، ثم إن الرغبة بالعودة لها لم تعد هاجساً مغرياً أو مقنعاً، لأن السلامة لرب عائلة، أفضل من الدخول في شبكة المساءلات وغيرها..

فأجابني: أبداً الأمور اختلفت، صحيح أن هناك سقفاً للتعبير، لكن الصورة غير ما تراها، وأعتقد أننا بمرحلة تحتاج لخط دفاع وطني نبنيه من كفاءاتنا للرد على الحملات الساخطة في تحيين الإذاعات والصحف، والأحزاب وغيرها..

رديت: أعطني فرصة للتفكير حتى أستطيع أن أقتنع..

قال: هل أعتبر هذا وعدا منك إن أردت الكتابة، أن تكون في فريق جريدة الرياض؟.

قلت أعدك..

ذهبت عدة أشهر ولم أعد أفكّر بالأمر، رغم تواصلي مع القراءة ومتابعة للأحداث لأنها جزء من مكون اهتمامات جيلنا، وخاصة من عاصر فورات لعواصف وتحريك الشوارع بالتظاهرات وفرز المجتمعات بالرجعي، والتقدمي والامبريالي، والبروليتاري، إلى آخر شعارات من طغى عليهم حداثة التفكير وجعل الشعارات مسلمات مطلقة..

ولأنني دخلت معترك الرياضة وأصبحت عضواً في إدارة مجلس إدارة نادي الهلال، فقد كان لقائي مع كتّاب ومحللي المباريات شبه دائم وخاصة من يتلاقون كمشجعين، كانت جاذبية تركي السديري كأشهر كاتب رياضي بالجريدة أوجد زمالة للعديد من الأسماء والشخصيات، وكان من بينهم كشخصية لامعة الأستاذ عثمان العمير، والذي من خلال نقاشات خارج الإطار الرياضي عرض أن أكتب زاوية في جريدة الجزيرة وكان وقتها، فيما أعتقد، مديراً للتحرير، وبالفعل اخترت العنوان والأيام التي أكتب بها..

بعد صدور العدد الذي حمل مقال زاويتي، وكنت وقتها موظفاً في وزارة المعارف فوجئت بزيارة الأستاذ تركي لي في المكتب، وبهدوئه، وقبل أي مقدمات قال:

ألم تواعدني إن كتبت أن يكون مقالك لجريدة الرياض؟..

قلت: أنا على وعدي، وهل من إشكال في الموضوع؟..

رد: سأفرغ لك صفحة باسم «آفاق» تكتبها كل يوم أربعاء من الأسبوع.

قلت: ولماذا لا تكون زاوية لأنني أحتاج لوقت أستعيد فيه نشاطي والتمرين على الكتابة، لأني كما تعلم منقطع منذ أكثر من سبع سنوات، وهذا يتطلب جهداً مضاعفاً..

صمت لكنه أصر، وقال الوقت معك، ولكنك ستباشر الكتابة الأسبوع القادم..

لقد عشت معاناة البدايات الجديدة، كيف أختار الموضوع وصياغته وجمله المترابطة، وعدم التكرار والتقاطع في المعنى، وهل أجرب أن أكون كاتباً اجتماعياً، أم فنياً، مع الرفض التام التقرب من السياسة ومغامراتها ودروبها المعقدة؟.

أعترف أن مهابة صفحة تكتبها بجريدة الرياض صدمة، وقد كان المقال الأول والثاني دون المستوى الجيد، ودون قناعة مني، لكني نظرت بأنها معركة لا بد أن أجتاز اختبارها، ولولا المخزون من القراءات المتعددة في مختلف الأفكار، لربما طوحت بالقلم وخرجت أبحث عن سلم أمان كخيار أبدي، غير أن ردود الفعل الإيجابية من القارئ، ومن كانوا على اهتمام بالرأي المكتوب من قبل عناصر مسؤولة بالدولة وغيرها، أدت إلى أن أصبح كاتباً ملتزماً..

لم أقف على حدود صفحة آفاق، بل كتبت بصفحة حروف وأفكار وبعض الزوايا مع عناصر كانت تمتلك الحس والثقافة والوعي وخاصة في محيط الجريدة من الزملاء سواء بالتحرير، أو كتّاب غير متفرغين، لكن الإضافة الأهم وصول المرحوم الأستاذ فوزان صالح الدبيبي من المنطقة الشرقية، وكان أحد أهم أركان الكتّاب في صحفها وخاصة جريدة «أخبار الظهران» بدأ سؤاله عني شخصياً لأنني الوحيد الذي زامله بتلك المرحلة، ولعل من النوادر بصدقه وجرأته وعدم اهتمامه بأي مظاهر شخصية أو عامة، وقد عرفته بالأستاذ تركي، ليدخل منظومة كتاب الجريدة، وبالفعل أضيف إلينا زميل حاضر النكتة مما عزّز وجوده كاتباً وصديقاً، ومثقفاً بنى أبجديات وعيه على نفسه..

قطعاً لا أغفل أسماء كثر سبقوني، أو زاملوني جعلتنا الجريدة أسرة واحدة مهما اشتدت الخلافات، أو تباينت الآراء، لكن الأجواء ظلت أخوية، لأن شخصية الأستاذ تركي خلقت التوازن وعطلت أي انشقاقات خاصة أن الجريدة كانت تضم كتّاباً عرباً بعضهم مقيم بالمملكة وآخرون من خارجها تختلف طروحاتهم، وحتى قناعاتهم عن بعض وحتى في خلاف السياسات..

في مبنى مؤسسة اليمامة في الملز، والذي يعد في وقته مثالياً لجريدة تتطلع أن تخرج من الأسر التقليدي، إلى العمل المهني المتطور، قاد الأستاذ تركي مسألة التحديث، مطابع جديدة وفرق عمل فنية في التبويب والإخراج وحتى الخطاطين، ومحررين على درجة عالية من تغيير أنماط الجريدة التي تعتمد على الخبر المحلي، وما تبثّه الإذاعات ووكالات الأنباء، إلى الخبر الخاص والتحقيق والمقابلات، والندوات، واستضافة الوفود والشخصيات المهمة داخلياً وخارجياً، ومن هذه النقلة ارتفع التوزيع وزادت المبيعات والاشتراكات، وتنامى الإعلان بشكل غير مسبوق، ورغم عدم توزيع أرباح كبيرة على المساهمين، الذين تعددت شكاواهم، فإن رأي الأستاذ تركي تحويل العائدات إلى الاستمرار بالتطوير، وكانت هذه السياسة ناجحة لأن تداعياتها اللاحقة، هي التي جلبت الأرباح وحولت الجريدة إلى مطبوعة على سلم أولويات الصحف المحلية، وتنافس العربية..

بقي أن أقول إن نقطة ضعف طالما كانت موضوع حوار بيني وبين المرحوم فوزان الصالح في الجريدة، وهي (كلمة الرياض) والتي كانت عموداً صغيراً يكتبه أخ من لبنان وهي في الأصل مترجماً ويعتمد التعليق على الخبر كمقال واسمه الأستاذ «إبراهيم جزيني» وكان هدفنا أن تكون كلمة الرياض بوزن حجمها ومعاصرتها للأحداث العربية والدولية الملتهبة، وفي مواجهة مع الأستاذ تركي طرحنا مشروع الافتتاحية، مضامينها، ومساحتها، وأن تنتقل إلى تحليل المواقف المستجدة كجزء من شخصية الجريدة، بدلاً أن تكون مجرد خبر..

تم التوافق على أن نبدأ التجربة بكتابتها بالتناوب، وبدون اسم عليها، وبالفعل تغير مفهوم القارئ حين أصبحت مجال تعليق من الإذاعات ووكالات الأنباء، واعتبارها رأيا يتلاقى مع سياسة المملكة، وطبعاً كان الحذر الذي فرضناه على كل منا باعتبارها ليست رأياً شخصياً وإنما نحمل مسؤولية رأي الجريدة، ظل التزامنا مستمراً، مع رقابة من رئيس التحرير كعين ثالثة، إدراكاً منه لحساسية المرحلة وصعوبتها..

بعد سنوات قليلة توفي المرحوم فوزان، وأسندت المهمة لي، وقطعاً تخليت عن كتابة صفحة آفاق، لأن كتابة يومية للمقال الرئيس بالجريدة والذي تستدعي الظروف أحياناً، تغيير بآخر لأي مستجد جديد من الأحداث سواء كان محلياً أو دولياً، فرض علي تفرغاً تاماً وفقاً لرؤية الأستاذ تركي، وقد لا أقول إن المهمة سهلة، وأنت تواجه رأياً عاماً داعياً، وكذلك قرادتها من عدة محطات فضاء اتخذتها في مقدمة استعراض ما تكتبه الصحافة، ومع ذلك لم يكن أحد يفهم اسماً لكاتبها، لأنها، كعادة كثير من الصحف تكتب هذه الصيغة كتقليد متعارف عليه، غير أنه مع تطور الظروف وإثارة موضوعاتها بالجمعية العمومية، وثناء ربما لا أستحقه من الحاضرين، رأى رئيس التحرير الأستاذ تركي، أن يعلن اسم كاتبها كحق قانوني، ولتختفي بعض الادعاءات بمن يكتبها، فكان إعلان الاسم عليها ضاعف من مسؤولياتي الشخصية لأن ثقل المهمة حوّل المجهول إلى معلوم..

لا أنسى أنه في معمعة الحرب العراقية - الإيرانية، ثم غزو الكويت، كنت أكتب بحس المسؤولية الوطنية، وغير مهتم بمن يمنحني أوصاف العمالة والرجعية، لكن ما كان دافعاً للقلق والخوف التهديد بالقتل أو خطف أحد أبنائي، أو نسف سيارتي بخطابات تأتي من دول خارج المملكة، أو مكالمات من هواتف العملة بالشارع، ومع ذلك قلت هذا جزء من ضريبة العمل، وما سيجري لا أستطيع تحديده أو منعه..

الشيء الآخر أن كلمة الرياض التي ظلت سجلاً يومياً لتاريخ سياسي بتحولاته وتناقضاته تتغير بالشهر الواحد، جاء زعم من السفارات الأجنبية بالمملكة، أنني أكتب بإيحاء أو تعليمات من الديوان الملكي أو وزارة الخارجية، وكانت تترجم، حسب ما قال لي أكثر من سفير عربي وأجنبي ألتقي بهم بالجريدة، أن ذلك لم يكن وهماً، وإنما جزماً حقيقياً، بينما، لو كان هذا صحيحاً، فكان أول من اطلع على هذا التكليف رئيس التحرير نفسه، وهو الذي يعلم كيف تكتب وتنشر كشاهد ومراقب عليها..

وللأمانة التاريخية التي تستدعي قول الحقيقة، أنني عشت أجمل أيام حياتي بجريدة الرياض بصحبة أخوة، لا أصدقاء فقط، وأتذكر أنه رغم مساهماتي القاصرة، كنت مشاركاً بالرأي، وغير متطفل، حيث هم من كرموني بتبادل الآراء والأفكار، وعلى سبيل المثال، أذكر أن المرحوم الأستاذ محمد أبا حسين، نائب رئيس تحرير الجريدة، كان يشرف على معظم مواد الجريدة ومقالاتها، وكان الزميل الأستاذ محمد رضا نصر الله، له زاوية في آخر صفحة الجريدة يكتبها كل يوم باسم «أصوات» تتعرض لمواضيع اجتماعية في الغالب، طَرْحتُ فكرة أن يحول هذا العامود إلى مقال ساخر يصبح مشروع ابتسامة مواضيع الجادة، وبعد صمت، وهو الذي لا يعطي رأياً مباشراً، قال ماذا تقترح كعنوان، قلت نسميها «غرابيل»تحمل المعنى المغربي (منخل) وبلهجة المنطقة الوسطى (عذاب الدنيا)، على أن تكتب بأكثر من اسم سواء من كتاب الجريدة، أو خارجها، وبالفعل خرجت فلاقت صدى غير متوقع لطرافة موضوعها وسخريته وقصره.

قلت إنني كتبت بمعظم مساحات الجريدة، وشاركت في مؤتمرات، ودعوات خارجية، وتعليقات على مواقف في المحطات الداخلية والخارجية، وكان من بين التطورات التي أسهمت بنقلة نوعية ملحق الرياض الأسبوعي، والذي كنت من بين المساهمين في مقالات خارج سياق السياسة تجنباً لتكرار المواضيع..

أمر أخير، وهو أنني تشرفت أن أكون عضواً في مجلس إدارة مؤسسة اليمامة ضمن كوكبة من إداريين جعلتني أطلع على خطط وسياسات المؤسسة وتطلعاتها، واستشرافها للمستقبل البعيد، وهي لا تقل في مسؤولياتها عن مهمات العمل في ميدان الكتابة، وأشهد أن الاحتكام إلى الرأي الجماعي في أي خلاف كان، كان يحسمه الاقتراع بالأصوات، وهو أحد أسرار نجاح المؤسسة والجريدة تحديداً حين أخذت المساحة الأهم والازدهار المهني، والأرباح غير المسبوقة.

تجربة أعتبرها جزءا من قدر قادني لهذه المهمة دون تخطيط مسبق، ولكنها المصادفات، حين عشقت القراءة صبياً، وكتبت أول مقال بجريدة القصيم بجانب كتابها الرئيسيين وفي صفحتها الأولى كحكاية لشاب لم يتجاوز الثامنة عشرة رأى نفسه في صف من كان يتمنى رؤيتهم، وتلك قصة أخرى تذكر كبدايات لسنوات جعلتني أكتب هذه الكلمات للتاريخ، والتاريخ فقط، ولكن في عمقها يأتي رجل طالما عشت معه سنوات العمر نختلف على القضايا الكثيرة، ولكننا لا نسمح أن تغير من عمق صداقتنا، لقد كان المرحوم تركي العبدالله السديري قيمة هائلة، حظّى الكبير أنني كنت من أقرب من تفاعل معه بصدق، وعاش معه أكثر من أخ، وأكبر من صديق.