يدرك اللبنانيون أنهم يعيشون أزمة اقتصادية قاسية تنعكس على نوعية حياتهم اليومية، فاقمتها أزمة وباء "كورونا" والتعطيل الذي نجم عنه... فالانكماش الحاصل في الاقتصاد بنسبة 12% بحسب تقديرات وزارة المالية يشعرون به في يومياتهم، والزيادة القياسية في نسبة البطالة التي تعدّت الـ 36 في المئة (عمالة نظاميّة)، تراها كلّ صباح بأم العين أفواج من العاطلين عن العمل. إرتفاع الأسعار يُفتت قدرتهم المعيشيّة ويوسّع كل يوم، بشكل متسارع، تلك الرقعة المخيفة من العوز التي تصيب نصف إجمالي عدد السكان، فيما نسبة من يعيشون تحت خط الفقر المدقع تتوسع بوتيرة متسارعة (22 في المئة من الإجمالي نفسه). وعلى سبيل العِلم، نحن نتحدّث عمّن يعيشون بأقل من أربعة آلاف ليرة. كيف يكفي هذا المدخول عائِلَة صَغيرَة ثمن خبز وماء؟

حدّة الفقر ووقعه الثقيل على المجتمع اللبناني اليوم يفاقمهما ضيقُ نطاق تغطية أنظمة الحماية الاجتماعية والتي لا تتعدّى 26 في المئة من اللبنانيين الأكثر فقراً، بحسب تقديرات البنك الدولي (شطر الـ20 في المئة من السكان الأكثر فقراً)، في حين أن أنظمة الحماية الاجتماعية في بلدان مثل الأردن تغطي حتى نسبة 85 في المئة. إلى الأزمة الماليّة التي تَخنق اقتصاداً مترنّحاً، نحنُ أمام إنفِجار إجتماعي فاقمه ضَغط الحَجر المنزلي بسبب وباء "كورونا". الأُسر الأكثر فقراً والتي عادةً ما تعتمد على الأجر اليومي لسد حاجاتها تكاد تصبح معدومَة. عدد كبير من المؤسسات الصغيرة والمتوسطة والتي تشكّل أكثر من 90 في المئة من المؤسسات في لبنان والتي كانت أساساً تواجه صعوبة في الصمود، وتتكل على مبيعاتها في السوق للحصول على السيولة المفقودة في المصارف، مهدّد بالإفلاس أو بالإقفال.

قد يتَخطى معدّل الفقر المدقِع في لبنان نسبة الـ 50 في المئة للمرّة الأولى في تاريخه ومنذ الحرب العالميَّة الثانيَة. والفئات الأكثر فقراً قد لا تتمكن من الاستفادة من الخدمات الطبية وخصوصاً في حالات تفشي الوباء.

نحنُ بكل بساطَة أمام مَجموعَة براكين متفجِّرَة. قَد لا تثور اليوم أو غداً ولكن ثَورانها مسألة وقت، ربما أقصر مما نتوقّع. براكين ستصادِفنا ونحنُ على طَريق التفتيش عن حلول.

بركان التربيَة. تهالُك مَخزون المَعارِف والمَهارات الذي لَطالَما ميَّزَ الرأسمال البشري في لبنان. النّسَب أشبَه بالحِمَم فـ 35 في المئة فقط من الذكور دون 18 عاماً في الأسر الأكثر فقراً، لا يزالون على مقاعد الدراسة في مقابل 92 في المئة منهم في الأسر ذات الدخل الأعلى. كلّ هذا من دون أن نذكر التقوقعَ الذي سوف تُدخلنا فيه الأزمةُ حكماً نتيجةَ تراجعِ قدرات الطبقات الوسطى على إتاحةِ فرصِ التعليمِ العالي لأولادها، والتبادل الاكاديمي والمعرفي مع الخارج ما سيسبب تراجعاً على المدى المتوسط في كفايات اللبنانيين، أو ما نتغنى به من رأسمال معرفي Capital Competence.

بركان صحّي. سيفاجئنا مع ارتفاع معدلات الفقر والبطالة التي ستخفّض القدرة على تحمل تكاليف الرعاية الصحية. في الأصل بدأ انخفاض الطلب على الخدمات الصحية والاستشفاء واستشارات الأطباء. باستثناء الحالات العاجلة. يؤجل المرضى الرعاية ما سيرتِّب آثاراً كبيرة على الحالة الصحية للناس في المستقبل. ولا شك في أن هذا الواقِع سيزيد من تردّي الصحة العقلية والاكتئاب والقلق على الحياة والمَصير.

وحتّى لا ننسَى، ثمّة بركان آخر: لبنان يستضيف أكبر عدد من اللاجئين في العالم نسبَة إلى عدد مواطِنيه، بما في ذلك أكثر من 1.5 مليون لاجئ سوري، إضافة إلى أعداد كبيرة من الإثيوبيين والعراقيين والسودانيين وغيرهم، ويتحمل أكثر من 70 في المئة من كلفة استضافة هؤلاء بحسب التقديرات الدوليّة. ولا حاجَة للإشارَة في هذا السياق إلى أنَّ الازدحام وسوء المرافق الصحية في المخيمات والمستوطنات، يمكن أن يجعلها أرضاً خصبة للأمراض والأوبئَة والعنف.

تحذيرات دوليّة

لقد أمطَرَتنا المؤسسات الدولية بِتحذيراتِها في مناسبات عدّة في السنوات الماضية، مشيرةً إلى أن نحو نصف سكان لبنان أو أكثر قد يقعون تحت خط الفقر إذا ساءت الظروف الاقتصادية، ورُسِمت أكثر من خريطة للحماية الإجتماعيّة حيث أن كلّ التوقعات كانت تشير إلى أزمة مالية حادة تجلّت بنسبة دين تخطّت 170 في المئة من إجمالي الناتج المحلي، في حين أن المعايير العالمية لا تنصح بتخطي هذه النسبة 80 في المئة. أما العجوزات المالية فتخطّت العشرة في المئة من الناتج المحلي القائم في حين أن المعايير العالمية لا تنصح بتخطي العجز نسبة 6 في المئة من الناتج، وذلك مع وصول نسبة فوائد الدين مقارنة بحجم الإيرادات إلى 46 في المئة مقابل 8.5 في المئة للمعدّل العالمي.

كلّ مؤسسات الحِمايَة في لبنان في العِنايَة الفائِقَة. الحِمايَة الإجتماعيَّة على رأس القائِمَة. كانت مستويات التغطية والإنفاق على برامج شبكات الأمان الاجتماعي في لبنان منخفضة قبل الأزمة، وهي بالتأكيد عاجِزَة اليوم عن تأمين الأسر الفقيرة ضد آثار الأزمة.

علينا أن نعرف أنه يتم راهِناً إنفاق أقل من واحد في المئة من الناتج المحلي الإجمالي على شبكات الأمان الاجتماعي. إصلاحات في العمق واستراتيجيات علميَّة يجِب أن تُطبَّق في القَريب العاجِل لِتفادي إستِمرار الإنزَلاق إلى أسفَل الدّرك.

الحكومة والحال هذه أمام مسؤوليات إضافية قد تكلّفها نفقات غير منظورة وغير مجدولة في الموازنة في ظل أزمة مالية خانقة تكبلّ الحيّز المالي إلى أقصى الحدود. وللدلالة على ذلك كشفت دراسة أعدّها معهد باسل فليحان المالي والاقتصادي- وزارة المالية، أن مواجهة لبنان فيروس "كورونا" قد تستلزم "تمويلاً إضافياً مباشراً بقيمة لا تقلّ عن 43 مليون دولار، أي ما يوازي نسبة 10 في المئة من موازنة وزارة الصحة العامة لعام 2020، مما يضيف "عبئاً مالياً إضافيّاً إلى تعقيدات الأزمة الاقتصادية والاجتماعية القائمة".

زيادة الانكماش الاقتصادي قد تدعو الحكومة إلى حزمة تسهيلات ضريبية ما قد يزيد من حدّة تراجع الإيرادات الضريبية المرتقبة (30% في موازنة 2020) وبالتالي حدّة الأزمة المالية. إزاء وضع شديد التعقيد، قد تتراجع أولويات الإنفاق الاجتماعي وتمويل شبكات الأمان.

كلفة متعاظمة

ووضع صعبأظهر فيروس "كورونا" الكلفة الكبيرة التي يخصصها الناس من مدخولهم للعناية الصحيّة، ويكفي أن نعرف أنّ نحو 800 مليون انسان يخصص كلّ سنة 10 في المئة من مدخولهم للعناية الصحيّة، وأن 100 مليون شخص تقريباً يصبحون كل سنة من عداد الفقراء بسبب الارتفاع المستمر لهذه الكلفة. هذا يعني أن معظم الناس في العالَم لا يستطيعون تحمل كلفة العناية الصحيّة إذا أصيبوا بالمرض.

النّظام الصحّي اصبح في العنايَة الفائِقَة، ومن ضمنه المستشفيات الخاصة والعامة. فدول كثيرة تعتمد على نظام التأمين الخاص بدل الأنظمة الحكومية. والحِمايَة من البَطالَة أيضاً بِحاجَة إلى حِمايَة. كلّ المحلّلين الإقتِصاديين الدوليين بدأوا يرقِّمون الإنكماش الإقتِصادي العالَمي. ففي ظل توقعات الانكماش مئات الألوف من الوظائف مهددة.

نعم نحنُ في وضعٍ صَعب. والعالَم بأسرِه في وضعٍ لا يُحسَدُ عليه. لكن أولوية الحماية الاجتماعية هي المدخل للحفاظ على مستويات من الاستقرار الاجتماعي تسمح بإنقاذ المجتمع وتجيير طاقاته من القلق إلى الانتاج، من الألم إلى الإبداع.

فرصة التحول نحو أنظمة شاملة للحماية الاجتماعية متاحة والعالَم يبحث فيها. فلقد أدرَكت الحكومات في العالَم وخصوصاً في زمن الوباء أن نحو 55 في المئة من الناس لا ينعمون بأي شكل من أشكال الحماية الإجتماعية، وهؤلاء ليسوا فقط الفئات الأكثر تهميشاً أو الفقراء بل أشخاص يعملون في وظائف جيّدة ولكن مهددة بالبطالة. نحو 40 في المئة من شعوب العالم ليس لديها أي شكل من أشكال التأمين الصحي، والنسبة الأكبر من العمال والمستخدمين في العالم لا يستطيعون تحمّل كلفة التوقف عن العمل. هم بالتالي مضطرون إلى أن يعملوا حتى لو كانوا مرضى وأن يعرضوا حياتهم وحياة من حولهم للخطر لأن عليهم أن يعملوا.

نظام حماية اجتماعية متكامل وفوراً

توصيَة منظمة العَمَل الدوليَّة الرقم 202 حول قواعد الحمايَة الإجتماعيَّة ومنها وضع حد أدنى للحماية لكل شرائح المجتمع، لَم تخرق أسماع الحكّام والحكومات قبلَ "كورونا" فهَل تخرقها بعد الوَباء؟

أهداف أجندة التنمية المستدامة للعام 2015 شددت على الأمن الاجتماعي وخصوصاً المقاصد 3.8 و10.4 و 1.3 مفصَّلَة منها حِمايَة المواطِنين والمواطنات من المَخاطِر الماليَّة، وحصولِهم على الأدويَة واللقاحات وتغطية صحيَّة كامِلَة للفقراء وغيرِها. فهل ستدفع ازمة "كورونا" الدول للوفاء بالتزاماتها؟ وكيف؟ وبأية موارد؟

قبل أزمة "كورونا" أوصت منظمة العمل الدولية الدول بتخصيص 1.6 في المئة إضافية من الناتج للحماية الاجتماعية، وفي الدول منخفضة الدخل 5.6 في المئة من الناتج. بعض وسائِل تَمويل هذه التوصيات كانت الضرائب التصاعديّة على الدّخل والثروة إضافَةً إلى تَدابير منع التهرّب الضّريبي. كان ذلك قبلَ "كورونا" وكانَ التّجاوب خَجولاً فَهَل يتحرّر التّجاوبُ مِن خجَلِه بعَد "كورونا"؟

في لبنان، ومع "كورونا"، لَن تَكون مسألة التمويل بسيطة بالنسبَة لاقتِصاد وَطني يترنّح. التقديرات تشير إلى ما لا يقلّ عن 200 مليون دولار سنويّاً لتَغطيَة مئة ألف عائلة تعيش تحت خط الفَقر. في ظل العجوزات الكبيرة في ميزان المدفوعات نتيجة الاختلالات الكبيرة لا سيما في الميزان التجاري، وتنامي المديونية وتضخّم عجز الموازنات، لا قدرة تمويليّة للدولة في المديين القريب والمتوسط على مواجهة التحديات المتعاظمةً وسيكون على لبنان إعادة هيكلة منظومة الحماية الحالية من خلال تحديث ودمج مؤسساتها وإعادة رسم حدودها والمستفيدين منها، كما والاعتماد على الهِبات والقروض المدعومَة والطويلَة الأَمد ( 30 إلى 35 سَنَة مهلَة سَداد) لتحقيق النتائج المبتغاة.

هذه الكلفة وإن بدت عالية للوهلة الأولى فهي ليست كذلك بتاتاً. فدراسات عدّة تشير إلى إنها كلفة على الاقتصاد من برامج أو تدابير أخرى مثل خفض الضرائب أو حزم الدعم المالي المباشر أو غيرها. بل هي تؤمن استقراراً اجتماعياً على المدى المتوسط وتبعد شبح العنف والاضطرابات.

لبنان والحال هذه في خطَر المراوحة. فالحلول الموضعية الآنية لم تعد تكفي، وعلينا ألاّ نستَخِفّ بالغليان الجاري تحت السطح: فهول التحولات وخروجها عن السيطرة أمر حقيقيّ. لذلك فالكلّ مدعو لرفع الأمن الاجتماعي إلى المرتبة الأعلى في سلّم الأولويات، والعمل فوراً لاعتِماد سياسات ذكيَّة للحمايَة الاجتماعيَّة تكون أهم ملامح مرحلة ما بعد "كورونا". وربما يكون تشكيل خليّة أزمَة شبيهة بتلك التي شكّلتها الحكومَة لِمواجَهَة كورونا مدخلاً.