مع استمرار الاحتجاجات اللبنانية بدرجات متفاوتة، تعددت التكهنات حول سبب الأزمة الحالية بدرجات متفاوتة أيضاً.

قائمة المشاكل التي يعاني منها لبنان طويلة، فهناك أزمة مصرفية سببها خطة قدمها البنك المركزي قبل ثلاث سنوات لجذب الأموال الأجنبية. كذلك أدت الانخفاضات الأخيرة في أسعار النفط إلى انخفاض حاد في تحويلات اللبنانيين العاملين في الدول الغنية بالنفط، لكنهم في النهاية يبنون أعشاشهم في الوطن. الخدمة المدنية المنتفخة التي أنشأها ساسة يحاولون شراء الأصوات أو كسب المال مع طوائفهم من خلال اختراع وظائف غير ضرورية باتت مرهقة للغاية بالنسبة للاقتصاد المتعثر. كذلك تجاوز الفساد، شأن الحال في الكثير من الدول النامية، حدود الانحراف ليصبح أسلوب حياة تقريباً.

أضف إلى كل ذلك أزمة سياسية طويلة الأمد سببتها الطريقة التي يوزع بها النظام الطائفي السلطة؛ ولذلك ستهبّ عاصفة لا محالة. بشكل عام، من المؤكد أن غالبية اللبنانيين غير راضين عن وضعهم الحالي ويشعرون بقلق من المستقبل، والعنصران يعتبران مكوناً أساسياً لمجموعة من المظالم التي تحرض الأمة على الثورة.

ومع ذلك، ماذا لو كان السبب الحقيقي للخيار الوحيد الحالي في مكان آخر، في مكان ما وراء الإدارة الاقتصادية المتهالكة والفساد على غرار دول العالم الثالث؟

قد يكون ما يواجهه لبنان إعادة تعريف لوجوده كدولة قومية. فالدول القومية يجري بناؤها وفق نموذج يعكس محتوى جوهرها وشكل وجودها ورؤية مستقبلها.
لبنان هو إحدى تلك الدول المصممة لتعكس التنوع الداخلي، وبناء مكان على الساحة الدولية ملاذاً للسلام والإبداع والحوار والتبادل والحلول الوسط من قبل القوى الخارجية المتنافسة.

قد يكون من الكليشيهات الإشارة إلى أن لبنان من المفترض أن يكون سويسرا شرق أوسطية مثلما أن الأوروغواي هي ملاذ سلام في أميركا الجنوبية، وسنغافورة في آسيا، والنمسا في أوروبا الوسطى. فلبنان يزدهر كلما لعب ذلك الدور. وكلما ابتعد عن هذا الدور، أو طرد منه من قبل القوى الأجنبية زادت معاناته.

في عام 1958، بعد عقد من الاستقلال مباشرة، صنف صندوق النقد الدولي لبنان أغنى دولة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من حيث الناتج المحلي الإجمالي لكل فرد من السكان. في تقرير صندوق النقد الدولي الأول عن المنطقة، صنفت ليبيا على أنها أفقر دولة، بينما جاءت تركيا في المرتبة الثانية بعد لبنان، وإيران في المركز الخامس بعد مصر. والأهم من ذلك أن لبنان لعب دوراً ثقافياً رائداً فيما كان سيتم تسويقه باسم «العالم العربي» منذ ستينات القرن العشرين فصاعداً.

على الرغم من وجود مطبات على الطريق، بما في ذلك الاشتباكات الطائفية التي غالباً ما يتم رسمها من قبل قوى أجنبية متنافسة، تمكن لبنان من بناء شعور بالوطنية اللبنانية، وهو ما يعلم الجميع صعوبة إدراكه.

لبنان دولة متوسطية ذات تقاليد بحرية عمرها 5000 سنة. وفي الوقت نفسه، هو إحدى أقدم قطع الإمبراطوريتين الرومانيتين، في الغرب والشرق، وهو أيضاً إحدى المناطق التي رحبت بالمسيحية. وأخيراً وليس آخراً، أضاف لبنان طبقة من الإسلام والعروبة إلى هويته الثرية كجزء من الإمبراطوريات الأموية والمملوكية والإمبراطورية العثمانية في نهاية المطاف، وجاءت الفترة الوجيزة خلال الانتداب الفرنسي لتضيف ظلاً آخر.

يمكنك أن تطلق عليها محاولة تغيير النموذج إن أردت، لكن ما نشهده هو محاولة تحطيم ذلك اللبناني ليحل محله آخر بهوية جديدة يكون فيها لبنان مخبأ أمامياً لثورة شيعية يقودها الملالي من طهران.

ففي هذا الإطار، قال آية الله محسن أراكي، رئيس مكتب التقارب بين الجماعات الإسلامية في طهران، «لبنان هو القاعدة الأكثر تقدماً لجبهة المقاومة». وبالنسبة لآية الله علي يونس، مستشار الرئيس حسن روحاني، فإن بيروت هي واحدة من أربع عواصم عربية «نسيطر عليها الآن».

في المقابلة الصحافية الوحيدة التي أجراها، يروي الجنرال قاسم سليماني كيف سافر إلى لبنان كلما أحب هو ورفاقه المسلحون من دون الحاجة إلى تأشيرة، ولم يشعروا قط بالحاجة إلى الاتصال أو إخبار أي شخص من الحكومة اللبنانية.

كان لبنان مجرد جزء من الإمبراطورية «الناشئة» التي كان يحاول بناءها من أجل المرشد علي خامنئي. اليوم، تعتقد طهران أنها نجحت في فرض نقلة نوعية على طريق إنشاء لبنان أحادي اللون ليحل محل قوس قزح في لبنان.

انعكس ذلك في مقابلة أجراها للصحافة الإيرانية آية الله حاجي الصادقي، الممثل الخاص لخامنئي في «الحرس الثوري »، روى فيها عن رحلة قام بها إلى بيروت، حيث أمضى «ليلة كاملة» مع حسن نصر الله قدم خلالها زعيم «حزب الله» اللبناني تقريراً مفصلاً عن خطته لمحو إسرائيل من على الخريطة، أو إنهاء المأدبة الإسرائيلية.

وقد أكد نصر الله للصادقي أن تنصيب حكومة مدعومة بالكامل من قبل «حزب الله» يعني «استعداد لبنان الكامل» لتحمل مسؤولياته في «جبهة المقاومة».
من المحتمل أن يكون نصر الله قد كثّف من درجة خضوعه لطهران للتأكد من استمرار تدفق الأموال الإيرانية إلى جيوبه.

ومع ذلك، ليس هناك شك في أن طهران تشعر بأنها حققت هدفها في السيطرة الكاملة على لبنان من خلال تشكيل حكومة «إجماع» حسان دياب التي يكون لـ«حزب الله» فيها الكلمة الأخيرة في القضايا الرئيسية.

قد يكون اعتقاد علي خامنئي بأنه الآن المتحكم في مصير لبنان سابقاً لأوانه على أقل تقدير. فبناء الإمبراطورية ليس بهذه السهولة، خاصة عندما يظهر الإمبراطور المحتمل عارياً في أرضه.

قد تكرر الحكومة اللبنانية الجديدة تجربة الخادم المهرج في قصة «خادم لسيدين» لكارلو جولدوني، محاولاً إرضاء كليهما، لكنه يفشل مع كليهما.
على رئيس الوزراء دياب أن يحل مشاكل لبنان في الوقت الذي يخدم فيه مخططات آيات الله الغريبة لبناء الإمبراطورية. إن مصالح لبنان اليوم لا تتوافق مع مصالح الجمهورية الإسلامية في إيران، حيث يحتاج لبنان إلى الاستقرار والسلام لإنعاش اقتصاده من خلال جذب الاستثمار الأجنبي وإحياء السياحة وتطوير نفسه كمركز قائم على الخدمات للتجارة الدولية والصناعات ذات التقنية العالية. وعلى النقيض من ذلك، فإن الجمهورية الإسلامية، كقوة تعديلية تسعى إلى إعادة تشكيل الشرق الأوسط إن لم يكن العالم كله، تزدهر مع التوتر والصراع.

يريد أحد السيدين أن يرى لبنان شاطئاً، في حين يريده الآخر أن يكون مخبأ. في الحياة الواقعية، على عكس المسرح، على المهرج أن يختار.