التحولات العالمية الكبرى دائما ما تفرض على منظري العلاقات الدولية تساؤلات جوهرية تشغل حيزا ضخما من الاهتمام لحين الوصول إلى إجابات مُرضِية لها.

فقد انشغل هؤلاء بعد الحرب العالمية الأولى - على سبيل المثال - بسؤال كيف يمكن تجنب وقوع حرب عالمية جديدة؟ فبرزت في هذا السياق نظريات عدة للإجابة عن هذا السؤال، كان أبرزها نظرية توزان القوى، التي ذهبت إلى أن الوصول إلى حالة توازن (عسكري بالأساس) بين القوى الدولية الرئيسية داخل النظام العالمي هو الذي سيضمن عدم ذهابها إلى الحرب.

ثم جاءت الحرب العالمية الثانية لتمثل تحديا جديدا لمجموعة النظريات والمقولات المركزية التي تطورت عقب الحرب العالمية الأولى، ولتطرح السؤال مجددا: كيف يمكن تجنب وقوع حرب عالمية ثالثة، لتظهر مجموعة أخرى من النظريات والمقولات البديلة.

كانت إحدى الإجابات المهمة في هذا السياق هي تعزيز "المؤسسية الدولية"، سواء على المستوى الدولي، في إطار النظرية الليبرالية ، أو على المستوى الإقليمي في إطار نظريات التكامل الإقليمي .

وقد عرف المجتمع الدولي تطبيقات عدة لهذه الإجابات، بدءا من منظمة الأمم المتحدة ووكالتها المتخصصة، وانتهاء بتجارب التكامل الإقليمي والتي وصل بعضها إلى مستوى متقدم، ومرورا بقائمة المنظمات الدولية غير الحكومية التي باتت تلعب دورا متزايدا بسبب تعمق حالة التشبيك العالمي واتساع دور مؤسسات المجتمع المدني. ورغم ما واجهته منظومة الأمم المتحدة من بعض التحديات منذ تأسيسها في منتصف أربعينيات القرن الماضي - وهي تحديات ارتبطت بالأساس بطبيعة مرحلة التأسيس ذاتها والتي انعكست على هيكل المنظمة وأجهزة صنع القرار داخلها - لكنها لم تشهد تحديات خطيرة تعبر عن "كفر" المجتمع الدولي بالمؤسسية الدولية.

لم تقتصر تداعيات جائحة "كوفيد-19" على العلاقات بين الفاعلين الدوليين الرئيسيين، خاصة الولايات المتحدة والصين، لكنها امتدت أيضا إلى المؤسسات الدولية.

هذه التداعيات أخذت مظاهر عدة. أولها، عدم قدرة مجلس الأمن على اتخاذ موقف محدد إزاء الجائحة، جراء الاستقطاب العميق الذي نشأ داخل المجلس، بين تيار رأى ضرورة إبعاده (المجلس) عن هذه الأزمة باعتبارها أزمة صحية بالأساس لا تدخل ضمن اختصاصات المجلس، وأخرى اعتبرت الجائحة تهديدًا للسلم والأمن الدوليين، ومن ثم فإنها تدخل في صميم أعمال المجلس، وتيار ثالث أصر على البدء بتحديد المسئولية الدولية عن الجائحة وتحميلها لطرف بعينه.

صحيح أن الأزمة ذات طبيعة صحية، لكن تداعياتها الخطيرة كانت تفرض على المجلس حزمة من الاستحقاقات التي كان يجب عليه النظر فيها كجزء من تهيئة المناخ الدولي اللازم لمواجهة هذه الجائحة غير التقليدية.

"التسييس" المبالغ فيه للأزمة، والاستقطاب الدولي حال دون اضطلاع المجلس بالحد الأدنى من مسئولياته، على نحو ينذر بامتداد تأثيرات هذا الاستقطاب إلى ساحات أخرى تدخل ضمن الأجندة الأصيلة للمجلس.

ثانيها - وهو المظهر الأهم - يتمثل في نقل هذا الاستقطاب إلى واحدة من المنظمات الدولية المهمة ذات الطبيعة الفنية، وهي منظمة الصحة العالمية، إلى حد اتهامها بالانحياز والتواطؤ مع طرف دولي بعينه، ثم معاقبتها بقطع الدعم المالي عنها.

وهكذا، بدلا من تطور قناعة دولية بأهمية دعم هذا النمط من المؤسسات الدولية ذات الطبيعة الوظيفية كشرط ضروري لإدارة الجائحة، باعتبار الأخيرة تهديد عالمي غير نمطي – بامتياز - فقد تحولت المنظمة إلى ساحة إضافية للاستقطاب، بل ومحاولة البعض تحويلها إلى أداة في إدارة الصراع الناشئ.

خطورة هذا المنحى أنه ينطوي على فرض أحد خيارين أمام المنظمة، إما العمل في ظل موازنة مالية محدودة، الأمر الذي سينعكس بالتأكيد على قدرتها على تنفيذ أجندتها الدولية بفعالية في ظل تحديات أكبر وأوسع نطاقًا، أو إعادة هيكلة مصادر تمويلها - كأمر واقع - في اتجاه الاعتماد المكثف على طرف دولي بعينه، الأمر الذي سيعمق من "تسييسها" والنيل من طابعها كمنظمة "عالمية".

ولا يمكن التأريخ للتحول الجاري حاليا في هيكل المؤسسية الدولية بتداعيات أزمة "كوفيد-19"، إذ يمكن التأريخ لذلك بظهور المجموعات الدولية الجديدة مثل مجموعة العشرين، وبريكس والبنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية، والتي مثلت جميعها جزءًا من إستراتيجيات التفاف الاقتصادات الناشئة على هيمنة الاقتصادات الصناعية المتقدمة على عملية صنع القرار الاقتصادي العالمي.
كما لا يمكن أن نعزو هذه التداعيات - والتي يتوقع أن تزداد خلال الفترة المقبلة - إلى جائحة "كوفيد-19" بمفردها.

إذ لم يكن لهذا الاستقطاب أن يجري بهذه الحدة لولا طبيعة المرحلة التي يمر بها النظام العالمي في المرحلة الراهنة. هناك توافق واسع بين دارسي العلاقات الدولية أن النظام العالمي قد دخل مرحلة "الصدام المحتمل"، وفق ما تذهب إليه نظريتا "تحول القوة" و"استقرار الهيمنة"، وغيرهما من النظريات.

طبيعة هذه المرحلة تتسم في الأغلب الأعم بغلبة الطابع الصراعي على التفاعلات الدولية بين القوى المهيمنة والصاعدة، واتجاه هذه القوى إلى تحويل الأبنية المؤسسية الدولية إلى أدوات أو ساحات للصراع.

قرار الانتقال إلى هذا المستوى الصراعي لا يأتي بالضرورة محصلة لقرارات متزامنة من الطرفين، فقد يُعجِل أحدهما بالدخول في هذه المرحلة؛ نتيجة الانحياز إلى قراءة بعينها لنوايا وسلوك ومسار تطور الطرف الآخر.

كما قد يعزز من هذا القرار بعض التطورات الداخلية، حيث تبرز هنا طبيعة إدارة ترامب وتوجهاتها إزاء الصين منذ وصولها إلى السلطة في عام 2017، ثم الاعتبارات الانتخابية، خاصة مع تقدم المنافس الديمقراطي "جو بايدن" في استطلاعات الرأي الأخيرة، واتجاه ترامب إلى تحويل الصراع مع الصين إلى قضية داخلية وقضية انتخابية.