انطلق في الآونة الأخيرة العداء الكامن داخل الأسرة الحاكمة في سوريا من الخفاء إلى العلن، حيث أعرب رجل الأعمال المعروف رامي مخلوف، ابن خال الرئيس بشار الأسد، عن مخاوفه الكبيرة من تهديدات النظام السوري الحاكم لأعماله في البلاد، وربما لحياته.

تأكيداً للقول، لا تخجل دمشق من استخدام أدوات العلاقات العامة المعروفة في الإعراب عن آليات مكافحة الفساد المعتمدة لديها، أو إيجاد مظهر التنافسات السياسية الخاوية من أي مغزى. لذا، ربما نميل إلى تفسير أحجية مخلوف على النحو التالي: جانب من التحركات التمثيلية لدى النظام السوري الحاكم تعتزم المحافظة - بأي وسيلة - على شعبية الرئيس السوري في الجزء الذي يحكمه من البلاد. غير أن الأمور هذه المرة تبدو حقيقية، ولا يبدو أن موقف مخلوف يشير إلى إمكانات التلاعب.

ولكن ما سر ظهور وحديث مخلوف الآن؟ فمنذ ظهوره في مؤتمر صحافي وحيد في دمشق عام 2011، نأى رجل الأعمال السوري الكبير بنفسه تماماً عن أضواء الصحافة والإعلام. واضطر إلى كسر قيود صمته المطبق، في فبراير (شباط) من العام الحالي، بعد مرور شهرين من تحرك السلطات السورية ضده، ومصادرة ممتلكات أسرته داخل البلاد، بتهمة ارتكاب المخالفات الجمركية المتعددة. وفي رسالة موجهة نشرها في إحدى الصحف، نفى مخلوف اتهامات الفساد الموجهة إليه، وإلى أسرته، مع الإشارة الواضحة إلى سجله الحافل بالأعمال الخيرية والإنسانية المعروفة. وصارت منصات التواصل الاجتماعي هي المنفذ الجديد الذي يطل منه مخلوف على الناس لمضاعفة وتأييد دفاعه عن نفسه، وعن أسرته.

وتلك، كما يُقال، هي ذروة ملحمة رامي مخلوف السورية التي كان يزيد غليانها طيلة الشهور الماضية. وبدأت التقارير الإخبارية بشأن الخلافات المتنامية بين النظام السوري وأثرى أثرياء البلاد في التداول بدءاً من أغسطس (آب) الماضي.

ومن الناحية الظاهرية، اضطلع الجانب الروسي بدور حاسم في تحرك النظام السوري ضد مخلوف. فمن وجهة نظر كثير من المحللين، جرى تشجيع الحملة الراهنة ضد مخلوف من قبل حفنة من رجال الأعمال الروس، والقيادات العسكرية السورية، الذين يرغبون في الاستفادة من أصول شركات رامي مخلوف في إنعاش احتياطي البنك المركزي السوري، وسداد الديون التي أثقلت كاهل البلاد بسبب الحرب المستمرة. وليس خافياً على أحد الحصة التي تملكها موسكو في الاقتصاد السوري. على سبيل المثال، كانت مطبعة سك العملة الروسية «غوزناك» تزود النظام السوري بأوراق البنكنوت المستخدمة في طباعة الليرة السورية.

وربما يكون للعنصر الروسي دوره الفعال في التأثير على توقيت مناشدات مخلوف المتعددة إلى الأسد. فمنذ أبريل (نيسان) الماضي، كانت وسائل الإعلام الغربية والعربية المختلفة تنشر التقارير الإخبارية المتنوعة التي تشير إلى قرب نفاد صبر موسكو من النظام السوري، ومن زعيمه الأسد. وللدلالة على ذلك، استشهدت مختلف المنافذ الإعلامية بمقالات تحتوي انتقادات عدة موجهة إلى شخص بشار الأسد، جرى نشرها في وسائل الإعلام المقربة من يفغيني بريغوزين، قطب الأعمال الروسي الكبير المقرب من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، المالك المزعوم لمجموعة «فاغنر» الدفاعية الخاصة ذات السمعة السيئة للغاية. وكانت مؤسسة «الدفاع عن القيم الوطنية» ذات الصلة بالسيد يفغيني بريغوزين قد أجرت استطلاعات رأي داخل سوريا، أشارت نتائجها المنشورة حديثاً إلى خيبة الأمل المتنامية لدى جماهير الشعب السوري من النظام الحاكم، ومن فساده الكبير. كما أعرب المسؤولون الروس أيضاً عن شكوكهم، إذ أعرب الدبلوماسي الروسي الأسبق ألكسندر أكسينينوك عن أسفه الشديد لسوء إدارة الاقتصاد في دمشق. ولقد جاءت كل تلك المجريات على رأس التصعيد الروسي الأخير الذي طالبت فيه موسكو دمشق بسداد القروض المستحقة بقيمة 3 مليارات دولار، في إشارة إلى نمط حياة رامي مخلوف الفاخر للغاية، كدليل على توافر الأموال لدى النظام السوري.

وفي واقع الأمر، ورغم كل شيء، لم يكن الدور الروسي في ملحمة رامي مخلوف محورياً، كما صورته وسائل الإعلام. ورغم أن التقارير الصادرة عن الآلة الإعلامية المملوكة للسيد يفغيني بريغوزين قد أشاعت كثيراً من الزخم والضجيج، فإنه نالها - في أوقات لاحقة - استنكار من كثير من المحررين الروس، فضلاً عن انتقاد الكرملين لها. ومع ذلك، كانت هذه الحملة موجهة بصفة قليلة نحو شخص رامي مخلوف، وبصفة أكبر صوب النظام السوري، في إشارة إلى أن موسكو ترغب من دمشق بذل المحاولات الجادة لإحياء اقتصاد البلاد، فضلاً عن توفير مزيد من الفرص لرجال الأعمال الروس، في صورة شكل من أشكال التعاقدات المربحة على سبيل المثال.

ومع ذلك، لا يزال الأسد اللاعب الوحيد القابل للتعامل معه من جانب موسكو. ويسهل الوقوف على أسباب ذلك، بمجرد التفكير في الأمر من زاوية الإخفاق الروسي في تشكيل أي قوى سياسية بديلة داخل سوريا، يمكن الاعتماد عليها في تنفيذ أجندة الإصلاح الداخلية.

وتحاول موسكو منذ سنوات كثيرة إضفاء صفة المركزية على القيادة العسكرية السورية، حتى يتسنى للكرملين ممارسة نفوذه السياسي من خلالها. لكن من الناحية العملية، ورغم كل شيء، لم تسفر تلك الجهود عن أي نتيجة ذات شأن. كما تفتقر المجموعات العسكرية التي تعمل روسيا معها داخل سوريا - «قوة النمر»، أو الميليشيات القبلية التابعة لزعامة تركي أبو حمد، وغازي إبراهيم الدير، وسليمان الشواخ - إلى السلطة المؤسساتية داخل البلاد.

وبعد عودتي من رحلتي إلى سوريا في عام 2018، صار من الواضح لديّ أن النظام السوري يواجه عقبات وتحديات كبيرة فائقة، وقد شرع في التهام نفسه بنفسه شيئاً فشيئاً، رغم صموده الظاهري من الخارج. وفي تلك الأثناء، كانت الاستنتاجات التي خلصت إليها ما تزال مثيرة للجدل، بالنسبة إلى زملاء المهنة على أقل تقدير. ولكنني أرى الآن أن الأيام قد برهنت على صحة موقفي المتخذ من تلك القضية. شرع الأسد في الانتقال بعيداً عن النموذج الأسبق «الرأسي» لممارسة السلطة في البلاد، وبدأ يعمل على ترسيخ كافة الأصول الممكنة حول شخصيته الرئاسية. وتعد ملحمة مخلوف الأخيرة مجرد مثال آخر على ذلك، إذ يسعى الأسد الذي يعاني من ضائقة مالية كبيرة من أجل تأمين مزيد من الموارد تحت ستار إجراء الإصلاحات، ومكافحة الفساد، ومواصلة التودد للحلفاء في الخارج.

ربما تكون روسيا قد استغلت تلك الخلافات داخل نخبة النظام السوري في زيادة نفوذها، وممارسة مزيد من الضغوط من أجل فرض الإصلاحات الحقيقية. ومع ذلك، فإن الكرملين لا يملك في واقع الأمر أدوات قوية للضغط على النظام السوري، ولم يبذل إلا المحاولات القليلة ذات المغزى في تأمين تلك الأدوات وترسيخها.