ليس في المنطقة نظام أمنى إقليمي في الإطار العربي، ولا في الدائرة الإقليمية الأوسع، لا نظام سلام يضمن الأمن والحقوق للجميع، سواء تحت مظلة أميركية ودولية أو من دون وجود قوات أميركية ودولية، ولا نظام صراع يضبط أي خلل أو خطأ في الحسابات ويردع تجاوز الخطوط الحمر عبر التوازن في موازين القوى وموازين المصالح.

أما النظام الذي يراد رسمه بالتدخل العسكري والتنافس على النفوذ فوق المسرح العربي، فإنه من أساس المشكلة، لا من مقاربة الحل، وأما النظام الذي يقال إنه سيكون جزءاً من صفقة كبيرة بين أميركا وروسيا ومعهما أوروبا والصين، فإنه يصطدم بكون النظام العالمي نفسه لا يزال في فوضى وصراعات "التضاريس" الجغرافية السياسية والتاريخية والتركيبة الاجتماعية في المنطقة.

من أواخر الأربعينيات في القرن الماضي إلى أواخر السبعينيات، حيث ظهر عاملان بارزان هما معاهدة كامب ديفيد وجمهورية الخميني في إيران، بقي الأمن القومي العربي مرتكزاً على مواجهة العدو الإسرائيلي كخطر وحيد، وكان ميثاق الدفاع العربي المشترك لا يزال حيّاً يرزق، وإن نشبت صراعات بين الدول العربية تحت عناوين "التقدمية والرجعية ومواجهة الاستعمار وحلف بغداد".

لكن الدنيا تغيرت في العالم العربي ومن حوله، ويرى مالكوم كير صاحب كتاب "الحرب العربية الباردة" أيام الرئيس جمال عبد الناصر أن مرحلة "الحرب الأيديولوجية" انتهت عام 1970 وانتقل الاهتمام إلى مرحلة "ضمان البقاء"، وكان دينامو الحركة العربية تفاهم "الثلاثي"، المصري السوري السعودي.

اليوم يواجه العرب ثلاثة أخطار كبيرة في وقت واحد: خطر التوسع الإيراني وفرض النفوذ مباشرة وعبر ميليشيات تابعة لطهران في بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء ضمن مشروع إمبراطوري جديد حيث الأمن القومي الإيراني على حساب الأمن القومي العربي، وخطر التوسع التركي الذي يندفع فيه الرئيس التركي رجب طيب أروغان مباشرة شمال شرقي سوريا وشمال شرقي العراق وغرب ليبيا وشرق البحر المتوسط، وكله على حساب العرب، وخطر إسرائيل القديم والدائم عبر ما يتجاوز ضم الأرض العربية في فلسطين والجولان السوري إلى تكريس نظرية "القلعة والسوق" حيث إسرائيل هي "القلعة" والعالم العربي هو "السوق".

وهذه القوى الإقليمية الثلاث متصارعة ومتنافسة على المسرح العربي، ومتفاهمة ضمناً في الكواليس من خلال مراعاة كل طرف مصالح الطرف الآخر تحت مظلة أميركا في مكان ومظلة روسيا في مكان، والمظلتين معاً في مكان ثالث، لكن أي قوة إقليمية لم تفعل كل ما تفعله إيران عبر تجنيد مجموعات مذهبية وميليشيات في بلدان عربية عدة، باستثناء تقليد تركيا لها في سوريا وليبيا بشكل محدود.

وفي بدايات ما سمي "الربيع العربي"، راهن الرئيس باراك أوباما على دعم التوازن بين قوتين: شيعية بقيادة إيران وسنية بقيادة تركيا ومعها مصر وتونس، وحين فشل الرهان اقترح أوباما علناً في حديث نشرته مجلة "إتلانتيك" دعم التفاهم على "تقاسم النفوذ في المنطقة بين طهران والرياض"، ولم يكن وارداً أن تقبله القيادة السعودية، أما الرئيس دونالد ترمب، فإنه يمارس "الضغط الأقصى" على إيران ويضاعف العقوبات بعد انسحابه من الاتفاق النووي، وأما الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، فإنه يريد استمرار "الستاتيكو" في المنطقة، ويلعب، بعدما استعاد لروسيا دور القوة العالمية من خلال الدخول المباشر في حرب سوريا، دور ضابط اللعبة بين إيران وتركيا وإسرائيل في سوريا.

والدور الضائع الذي يعمل الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي على استعادته هو الدور القيادي العربي لمصر، ولا مهرب من الحقيقة في الحسابات الإستراتيجية والجيوسياسية، وهي أن مصر في حاجة إلى دورها العربي بمقدار حاجة العرب إلى دور مصر، ولا أحد يجهل ما تبدل في الواقع، وأشار إليه مارك لينش أستاذ العلوم السياسية والشؤون الدولية في جامعة جورج واشنطن ومؤلف كتاب "الحروب العربية الجديدة: انتفاضات وفوضى في الشرق الأوسط".

ففي مقال نشرته "فورين أفيرز" سجّل لينش أن الثورات لم تؤد إلى ما توقعه كثيرون من تحولات ديمقراطية لكنها قادت إلى تطورين مهمين، الأول هو "خلق نظام عربي جديد" والثاني هو "إعادة تشكيل العلاقات الإقليمية"، كيف؟ "القوى التقليدية الكبرى، مصر وسوريا والعراق هي الآن لا تكاد تعمل"، و"بلدان الخليج الغنية تنمو وتزدهر".

وليس أمراً عادياً بعد عقود من الاستقلال والتخلي عن القواعد العسكرية الأجنبية أن يضاف الاحتلال الإيراني والتركي لأرض عربية إلى الاحتلال الإسرائيلي ولا بالطبع أن تستعاد الحاجة إلى القواعد الأجنبية في بلدان عدة.