"لم أكمل كتابة أي من رواياتي، والكثير من قصصي تركتها في منتصف كلمة. لا أخلف إلا شظايا. لم أحسن تدشين أي من مشاريعي". (ف. ك)

في حالة الانعطاف الباطني تتكوم داخل ذات الإنسان بالتراكم أفكار تبدو إلى ما يشبه سحابات من الشكوك والوساوس، مما يجعلها تكوّن لديه صوراً مشوهة لما يريده أن يكون جميلاً أو أنه قد تجسدت في مخيلة جماليات يتوق إليها ولكن حالة الانعطاف هذه تأبى أن تفارقه، اذ تتكئ عليه كلما شرع في أن يتأمل ما يرى أنه سيكون سعيداً به، وخاصة في صحبته ومعاشرته وحتى عمله الرسمي الذي هو جدول معاشه المغذي لاستمرارية الصرف على المتطلبات الحياتية التي يحتاجها الفرد مهما كان مستواه، إذ إن الكل يعمل ليعيش، ويؤمن ما يضمن ذلك من خلال العمل الذي يحسن العطاء فيه، وفرانتز كافكا كان في كل حالاته منذ بدايات حياته وتكوينه الشخصي هو عرضة التفكير كما أي إنسان.

إقرأ أيضاً

خطيبات كافكا! (1-2)

وعندما دخل في حياة تمكن خلالها أن يكون القلم في يده أداة مطواعة لتسطير بعض الكلمات التي يتنفس من خلالها برسم خطوط تكون ما يماثل الصورة الحقيقية لما يتخيله توصله بالمقابل المتلقي له، وهو يميل إلى ما يشبه الكسل البدني والدافع إلى النشاط الذهني الذي انحصر في الكتابة وخاصة في الإبداع الأدبي، فالكلمات أصبحت هي الوسيلة التي من خلال تسطيرها يحاكي بها ما حواليه، واستدعى ذلك من حواليه من الهواة والقادرين إلى التقرب منه للمشاركة في الدخول معه في دائرته مما تنعكس عليه صورة الإعجاب بشخصه ونتاجه وهذا ما كان له أن يتتالى في حياته من مقتربات/ مقتربين، فـ (ماكس برود) ومن يماثله، و(فيليس باور) التي التصقت به معجية وعملت سكرتيرة مساندة تنسخ ما كان يخط من كلمات على الورق وتعيد طباعتها على الآلة الكاتبة، تحولت مع الأيام إلى محظية وعاشقة حتى توصلا إلى أن اتفقا على الزواج وكانت الخطوبة ثم فسخاها، وتكرارها ثم الفسخ الأخير وذلك تأتى بتأثير من الحس الذاتي الموحي له من خلال الانعطاف الموحي له بأنه خلق للأدب كتابة وقراءة وأن كلما سيدخل غيره في حياته ربما يحرمه من متعة الأدب الذي فسر نفسه لكي يكون له طوعاً وشغفاً حتى تملكه ولا يقدر الفكاك منه، فصار التعامل من قبل - فيليس - العاشقة يقابل منه بما تحس أنه الفتور بعينه، إذ قال: "هذه أوقات يا فيليس، أشعر فيها أن لك سلطة كبيرة لدرجة أني أعتقد أن بإمكانك تغييري إلى رجل في استطاعته عمل الأشياء المعتادة" ويحاول أن يصحح المسار وكان للفتور أن صور كما أملت عليه هواجسه أن تكون صديقتها الجميلة التي استحسنها (غريت بلوخ) كما الوسيط بينهما، فصار يرسل لها رسائل خاصة بها يبدي إعجابه بها ويتحدث فيها عن فيليس، وغريت تعرض الرسائل لصديقتها، مما أثار الغيرة ليصار إلى اجتماع بما يشبه المحاكمة، وتورد الكاتبة (جاكلين راوول دوفال) في روايتها – كافكا الخاطب الأبدي - تحت عنوان المحاكمة ما يشبه الاستجواب في اجتماع ينحصر في فيليس وأختها وغريت، والطبيب فايس وكافكا المتهم: "قالت فيلس: حان وقت توضيح الأمور يافرنتز، منذ مدة لم تكتب لي ورسائلك كلها ترسلها إلى صديقتي التي سعيت إلى خداعي معها ولا نعرف من تحب وصرت تستبسل في بيان بأنك لا تسطيع الزواج وأن كل ما فيك يتمرد ضد هذا الارتباط؟" فيتدخل الطبيب فايس؟: آنسة غريت هذه الرسائل مرسلة لك شخصياً فهل سألت كافكا مستأذنة منه في أن تطلع عليها فيليس، فتذكر أنها أعلمته بعد أن فعلت، وتخرج الرسائل التي بلغت 67 ولم تذكر بأنها قد تبادلت معه الرسائل.

كافكا: لا شيء مما قيل صحيح.

فيليس: كلا لن تواصل الصمت وما أسهل الأمر بالنسبة إليك (تمسك بالرسائل) لقد توقفت عن الكتابة تماماً – أنا خطيبتك - كانت مجرد تعلة كي تكتب إلى امرأة أخرى أغويتها بشكل يدعو إلى الخجل لم تترك فيها سؤالاً عن شخصيتها وحياتها إلا وطرحته.

غريت: حان وقت وضع حد لكل هذا عليكما أن تفسخا خطوبتكما"، ولكن لم يتم ذلك استمرا في تواصلهما حتى وهما في شكوك وتنافر مزاجي إلى مدة زمنية إلى وقت فراق لا رجعة فيه، صار ينظر في يومياته ومنها "غريس حررته من فيليس، وميلينا خلصته من الصغيرة، فعلتا بنفس الطريقة والأسلحة نفسها التي وضعها بين أيديهن – الرسائل - وميلينا تستمر معه مجتهدة في ترجمة كتبه والرسائل بينهما حول العمل، عقود مع ناشرين وتصحيح معلومات ومراجعة مواضيع لا تتعدى المجال نفسه ولكنها مع مرور الوقت تحولت الرسائل إلى نقل المشاعر الخاصة التي تحتوي على الإعجاب وما يسميه الحب وما يدرج في خانة العشق وتكون الجرأة في التدخل في الأمور الخاصة بين ميلينا وزوجها ومحاولة معرفة دقائق الأمور التي هي بدورها كانت تمثل فيها أنها تعطيه الحقائق اذ تسايره فيما يذهب إليه من أحلام وما يداخله من مخاوف قد تجلبها لها هذه المحاولات ولكن تمضي المسائل كما هي، فاشتداد مرضه يكون الدافع للعطف من قبلها وما يساندها به من مال تلمح لحاجتها له في الرسائل، وما أن مرضت هي كذلك حتى صار يتوجه إليها باندفاع ليكثر من طلب اللقاءات بينهما وتكون الرسائل التي غمرها بها هي الأكثر من غيرها لسواها، وهذه الرسائل هي المتكأ العريض الذي بنيت عليه الرواية (كافكا الخاطب الأبدي) حيث إن الكاتبة التي كانت تريد أن يكون عملها مسرحية تمكنت بقدرتها الإبداعية من أن تمتلك ناصية الفن الكتابي وتحولها إلى رواية تسرد فيها حياة كافكا والنساء دون إغفال حياته العملية وشخصيته ببيولوجيا وسيكولجيا مما يشير مؤكداً بأنها تمعنت في كتاب (يوميات كافكا) الذي حرره وقدم له وعمل عليه بما يشبه التحقيق صديقه الكاتب ماكس برود، وكتب كافكا كلها إن لم يكن معظمها، ليس اقتباساً ولكن إحاطة بثقافته ونتاجه بحيث استطاعت أن تجعل من شات الرسائل ما يشبه الحكي الاستعادي المكتوب كواقع عن وجود الشخص بخصوصه وعمومه كسيرة حياة في شكل روائي يسرد في فصول متوالية وربطها بخيط تنامي الأحداث بحيث ترى الشخصيات المروي عنها مجسدة بأشكالها وحواراتها، فهي في وصفها للقاء الأخير بين كافكا وميلينا" لا تحزن لا تكره نفسك على شيء ولكن لا تحزن على عدم وجود ما يكرهك، كف عن تشمم إمكانات الإكراهات" المرض يشتد والقوى تخور والمقابل يطلب ما لا يستطاع فيكون الفراق، بدخول شابة جديد في حياته وهو في سن يرى أنه على شرفة الأربعين هي (دورا) التي كانت كممرضة راضية بخدمته وتوفير ما يمكنها في سبيل راحته: "ان قدر لي بلوغ الأربعين فسوف أتزوج على الأرجح شابة متقدمة في العمر أسنانها الأمامية بارزة ومكشوفة قليلاً شفتها العليا" تبقى معه ويطالبه أهله وذووه بالزواج منها وهو يعاني من اشتداد المرض وفي ذات يوم تعود فيه دورا محملة بالرسائل والكتب التي طلبها منها ومعها بعض الزهور وتدعوه بـ "فانتسي العزيز" هلا اشتقت هذه الزهور بعطرها العذب، يفتح عينيه أمسكته برفق الرجل الذي أحبته كثيراً ولم تسمع قلبه ينبض –فرانتز.. كافكا تمكن من الهرب - ولم تحظ بزواجه أحبها وأحبته فكان حبهما الأخير.

ترجم الرواية محمد آيت حنا الذي يعتقد كما يقول مخاطباً كاتبة الرواية "كما قيل في كتاب المحاكمة هذا الباب لم يصنع إلا لك – ك- مترجم هذا الكتاب أيضاً يعتقد أنه لم يكتب إلا له، وكان عليه أن يقف طويلاً إلى أن يكتشف أن الدخول يعني التوقيع على عقد أول شروطه عدم إمكان الخروج أبداً، لأن بعد الباب أبواب وبعد الأبواب ردهات وبعد الردهات قصور أخرى ومع ذلك ليس لنا إلا أن ندخل.. ليس لنا إلا أن نترجم" وهذا العمل الروائي الذي وصفت صاحبته بأنها تعتبر بمثابة الخطيبة الخامسة لكافكا من قبل صحيفة لوكانار أوتشيني الفرنسية التي لم تصلها رسائل من كافكا، ولكنها أرسلت إليه إحدى أجمل الرسائل وصلته لحسن حظه وحظنا.

كتاب من الكتب الجميلة التي اقتطفتها من ثمار العزلة أزالها الله الغمة عن العالم أجمع.