فى الوقت الذى تتجه فيه الدول الأوروبية إلى فتح حدودها بين بعض الدول، بعد ما تكبدته من خسائر اقتصادية نتيجة إجراءات الغلق وحظر السفر للحد من تفشى جائحة كورونا «كوفيد 19 المستجد»، وبعد أن دعت المفوضية الأوروبية إلى إعادة فتح الحدود الداخلية للاتحاد الأوروبى بطريقة «منسّقة» و«بأكبر قدر من الانسجام» وبشكل «غير تمييزى».. حتى لا يخسر قطاع السياحة موسم الصيف بالكامل، وهذا القطاع أساسى بالنسبة لاقتصاد الاتحاد الأوروبى، إذ يمثل 10% من الناتج المحلى الإجمالى و12% من الوظائف.. فى هذا الوقت نطرح على أنفسنا أهم التساؤلات المتعلقة بمصطلح «مناعة القطيع».

لم تكن مصادفة أن يخرج علينا المدير التنفيذى لبرنامج الطوارئ الصحية لمنظمة الصحة العالمية، الدكتور «مايك رايان»، فى التوقيت نفسه، ليحذر من أن مفهوم مناعة القطيع «خطير».. وقال «رايان» إن العالم بحاجة إلى توخى الحذر عند استخدام المصطلح، لأنه يمكن أن يؤدى إلى عملية حسابية وحشية للغاية لا تضع الناس والحياة والمعاناة فى مركز تلك المعادلة!.

هذه العملية الحسابية الوحشية -كما يقول رايان- ستصل إليها البلدان التى كانت لديها «إجراءات متساهلة» ولم تفعل أى شىء، فسوف تصل فجأة بشكل سحرى إلى بعض مناعة القطيع.. لكنه يتساءل: وماذا إذا فقدنا بعض كبار السن على طول الطريق؟ هذا تصور خطير وخطير حقاً.. فكما يقول «رايان» نفسه إن «البشر ليسوا قطعاناً»!!.

دعنا الآن من «كبار السن»، ولننظر إلى الشباب من ذوى «الأمراض المزمنة»، فى دولة مثل «الهند»، التى يبلغ تعداد سكانها 1.3 مليار نسمة، مع توافر 55 سريراً فى المستشفيات لكل مائة ألف شخص، ووجود 48 ألف جهاز تنفس اصطناعى فى كافة البلاد.. الهند لم تجر اختباراً للإصابة بالفيروس إلا بما يعادل حوالى 694 اختباراً لكل مليون شخص، وهو واحد من أدنى المعدلات لإجراء فحوصات الإصابة على المرض فى دول العالم.

وحول إمكانية تطبيق استراتيجية «مناعة القطيع» فى الهند، قالت «فورين بوليسى»، إن هذا النهج المثير للجدل، يقوم على حصول غالبية السكان (60 فى المائة إلى 80 فى المائة) على مناعة أو مقاومة للفيروس من خلال الإصابة بالعدوى ثم التعافى منها، لكنه يصعب تطبيقه فى الهند.. أولاً لأن الخبراء حتى هذه اللحظة لا يعرفون الكثير عن المناعة من مرض كوفيد 19، ومدة هذه المناعة، وماهية المناعة الذاتية التى سيتم تكوينها.

ورغم أن تطبيق «مناعة القطيع» فى الهند يبدو استراتيجية مثالية، فمعظم سكان الهند من الشباب (أكثر من 80 فى المائة أقل من 44 عاماً)، لكن للأسف هؤلاء الشباب تنتشر بينهم بشكل واسع أمراض (الضغط المرتفع، السكرى، فيروس نقص المناعة، والأمراض الرئوية مزمنة والربو)، ناهيك عن أن حوالى ثلث البالغين فى الهند هم من المدخنين.

وبالتالى فإن السماح للفيروس بالانتشار من أجل استراتيجية تجريبية لتكوين «مناعة القطيع» يمكن أن يؤدى إلى دخول مئات الآلاف من الأشخاص إلى المستشفيات والعناية المركزة.

لقد ابتعدت قدر الإمكان عن أعداد المصابين فى مصر، وإصابات أطباء مصر «الجيش الأبيض» وطواقم التمريض بفيروس كورونا، وعن البلاغ المقدم من نقابة أطباء الدقهلية، ضد النائب «إلهامى عجينة»، عضو مجلس النواب عن دائرة بلقاس، والتى تتهمه فيه بإهانة الأطباء وقذفهم وذلك فى واقعة «البث المباشر من مستشفى شربين العام».. وعن استغاثة الأطباء بالقيادة السياسية بعد إلغاء البروتوكول الذى كان يقضى بأخذ مسحات من عضو الفريق الطبى الذى خالط حالة إيجابية للكورونا دون استخدام الواقيات المطلوبة.. فالمثال على الانهيار الاقتصادى العالمى يتجسد فى توجه المفوضية الأوروبية نحو عودة النشاط السياحى، أما «خرافة مناعة القطيع» فقد أكدها المدير التنفيذى لبرنامج الطوارئ الصحية لمنظمة الصحة العالمية، وتجسدت خطورتها فى بلد مثل الهند.. لكن ما يهمنى -هنا- هو أن العالم كله يربط القدرة على مواجهة جائحة «كورونا» بقدرة المنظومة الصحية على استيعاب المصابين قياساً إلى نسبة السكان، وإمكانية عمل مسح شامل للشعب (تحليل PCR)، وأعمار غالبية السكان والأمراض المزمنة المنتشرة أو المستوطنة فى أى مجتمع.

هذه هى المعايير أو الخطوط العريضة لاتخاذ قرار «الغلق أو الفتح» سواء داخلياً على مستوى الأنشطة الاقتصادية والترفيهية أيضاً، أو على مستوى التواصل مع العالم الخارجى أى فتح الطيران (أنباء عن اتخاذ إيطاليا قراراً بعودة الطيران، «وطيران الإمارات» تعتزم استئناف رحلات الركاب إلى 8 دول، اعتباراً من 21 مايو الجارى).

بقى السؤال الأخير: هل يُفترض أن نلجأ -الآن- إلى الحظر الشامل لفترة محددة لمواجهة تفشى الفيروس، أم أن علينا أن نأخذ بالتوجه الأوروبى ونفتح كل الأنشطة مع اتخاذ الإجراءات الاحترازية «المشددة»؟!

الإجابة يلخصها الرهان على «وعى المصريين».. وإن شئت أن تحدد مدى هذا الوعى تذكر ازدحام «العتبة» والفطور الجماعى على كورنيش الإسكندرية والجنازات والأفراح والتجمع احتفالاً بعودة مريض من مستشفى العزل أو اعتراضاً على دفن طبيبة توفيت بفيروس كورونا.. و«أنت ومناعتك».