نحن جيل مؤدلج بامتياز، نحن جيل مسكون حتى النخاع بالايديولوجيا على حساب «الابستمولوجيا» او المعرفة.

فنحن جيل تفتح وعيه الأول في زمن فاضت فيه الايديولوجيات حدّ التخمة والازدحام، فكان صراع الايدلوجيات عنوانه وتفاصيله التي استهلكت أعمارنا، فكان صراع الخصم الايدلوجي أهم بالنسبة لنا من صراعنا مع أسباب تخلفنا وتأخرنا.

فكان العلم والمعرفة والبحث قرابين سفكناها على مذابح الصراع الايديولوجي في الوطن الواحد والقطر الواحد.

فالقوميون تصارعوا مع القوميين واحتربوا، واليساريون تصارعوا مع اليساريين واحتربوا والبعثيون تصارعوا مع البعثيين واحتربوا والاسلام السياسي تصارع مع الاسلام السياسي واحترب.

وفي هكذا مناخات ملوثة بالوعي الزائف أصبحت الايدلوجيا «ادلوجة» وأيقونة مقدسة وتميمةً تعلق في الرقاب، فأصبحنا حفظة عناوين كبيرة نجترها من المؤدلجين السابقين ونعيدها ونستعيدها دون وعيٍ نقدي، فالنقد محظور داخل الايديولوجيا الواحدة والمساءلة هرطقة والشك انحراف وتهمة الخيانة للمبادئ جاهزة في معلبات مصفوفة بعناية في رفوف العقل المنغلق على ايديولوجيته التي لا قبلها ولا بعدها شيء.

فالمؤدلج منا لا يتخذ موقفًا او يصدر حكمًا إلا بمرجعيته الايدلوجية حزبًا كان أو قائدًا او مكتبًا سياسيًا او مجلس شورى وأيًا من التسميات التي تفرض سلطة وسطوة مجموعة متنفذة على العقول وتحدد لها مساراتها وخياراتها وتتخذ عنها قراراتها.

اذا عنَّ لك أن تفكر خارج السرب أولاً تلبي طلبًا او تهمل توصيةً من المؤدلج الأكبر، فسارع قبل طردك من فردوس الايدلوجيين أمام محكمة المؤدلجين وقفْ صاغرًا نادمًا مكسورًا وذليلاً وأعلن توبتك وبراءتك وتطهرك من ذنبك لعلهم يقبلون أعتذارك ويرأفون بحالك قبل أن يتخذ قرار طردك ونفيك من فردوسهم.

حتى الكتب التي تقرأها هي كتب مقررة ومحددة وتدور ضمن ايديولوجيتك وممنوع عليك قراءة غيرها حتى لا تتلوث بالمعرفة او بشيء من المعرفة خارج إطار ما يريدون لك أن تعرفه ضمن صندوق الايدلوجية الذي لا تملك مفاتيحه ولا تحفظ أرقام قفله.

فأنت لا تحتاج مفاتيح تفكك بها عقلك وفكرك ما دام هناك من يفكر بديلاً عنك ويقدم لك الطبق الايدلويوجي جاهزًا، فلماذا تتعب نفسك بشيء اسمه التفكير وأعمال وأدوات النقد وتستهلك إمكانيات عقلك والأمور جاهزة في مطبخ الايدلوجيا منذ سنواتٍ بل منذ عقودٍ طويلة لم تتغير ولم تتبدل وطبيعي لم تتطور ولن تتطور ما دام لوح الايدلوجية المحفوظ محفوظًا في الصندوق المغلق.

لذا أطلق نصيحتي «اهربوا من ذاكرتنا المؤدلجة»، فلن نقدم لكم شيئًا ولن نتحدث معكم بلغة عصركم ومستجداته ومتغيراته ولن نُضيف إلى ما قلناه لعقودٍ وعقود شيئًا جديدًا، فلا تكونوا نسخةً منسوخةً منا اذا أردتم العيش في عصركم والتعامل مع زمنكم وفهم حياتكم.

فمن المؤدلجين اكتفينا بصراع الايدلوجيات وعشنا عليه وتعشينا منه، فانفذوا بجلودكم من لوثة الايدلوجيا إلى عالم جديد تجاوزها، فأبدع وأنتج وأثمر وأعطى.

وختامًا فهي رسالة تقطر صدقًا وصلتني من رجل قضى سنوات عمره في إطار ايديولوجي معين وداخل صندوق جماعته المؤدلجة فكان واحدًا من كبارهم لا يستطيعون التشكيك فيه أو الغمز واللمز من قناته فقد كان قائدًا ايديولوجيًا يشيرون اليه بالبنان واللسان.

استأذنته في نشرها فقال لم أبعثها لك إلا لتنشرها فهي خلاصة وزُبدة تجربة طويلة مع الايديولوجية والايدلوجيا، اختصرها في بضعة سطور لتناسب الهدف الذي قصدته، ولعلها تفيد جيلاً جديدًا أقول له بكل محبة ومودة وبكل إخلاص «أهرب من ذاكرتنا المؤدلجة».