لنتفق من البداية على ان انتشار فيروس كورونا «كوفيد 19» بين العمالة الاسيوية، وتزايد اعداد الاصابات بينهم، كان امرًا متوقعًا منذ وصول جائحة كوفيد الى البحرين ودول الخليج العربي عمومًا، ومن استبعد هذه التوقعات مع طبيعة مساكنهم في بداية انتشار المرض، حتمًا كان يريد تأجيل الاستماع لأسوأ نتائج ومشاكل موجودة على الارض.

لقد استقبلت البحرين «الزائر اللعين» المعروف بـ«كوفيد 19» كغيرها من الدول عبر المعابر الحدودية، لكن هذه المعابر لم تعد سوى اداة لوجيستية احتاجها الفيروس في البداية للدخول الى اي بلد، وبعدها لم يعد بحاجة اليها كي ينتشر، وهذا ما حدث تمامًا مع معظم دول العالم التي لم تعد تسأل كيف وصل اليها الفيروس، بل كيف كانت استجابة انظمتها الصحية وسياساتها الحكومية ازاء تداعياته.

هنا في البحرين كانت استجابة النظام الصحي مثالية بالتعامل مع جائحة لا احد في العالم كان مستعدًا لها، حيث قدمت الرعاية الطبية التي تساوى فيها الناس جميعًا، كذلك الجهود الامنية التي خرجت من الاطار الاعتيادي، وتحولت بكثير من تفاصيلها الى عمل اجتماعي وإنساني في محاولة لمعالجة تداعيات مشاكل لم تكن يومًا وزارة الداخلية مسؤولة عنها، بل لنعترف انها صناعة مجتمعية بامتياز، وما فعله مؤشر أعداد الاصابات بـ«كوفيد 19»، سوى ان وضع عدسته المكبرة على نتائجها.

فلآخر 20 عامًا -على الاقل- كان اي ملف صحفي نطرح فيه مشكلة تتعلق بالعمالة الاسيوية، كنا نبحث من خلاله عن احداث صدمة وليس عن حلول، ونتناسى واقعيًا ان وجود هذه العمالة سواء في البحرين او بقية دول الخليج صنعته طبيعة اقتصادياتها، وحجم الطلب على العمالة الوافدة في اسواقها، وفي الوقت الذي كان يطلب فيه من «الدولة» ان تلبي تشريعاتها وقراراتها حاجة بعض القطاعات التي تطرح وظائف لا تشكل مزاياها ولا رواتبها حلمًا للمواطن، كان يطلب من «الدولة» ذاتها ان تعزز من فرص مواطنيها في سوق العمل عبر سياسات توطين الوظائف، والتدريب، والتمكين. وبالتالي العمالة الوافدة لم يأتوا عبر «مركبة فضاء» ولا هم من المهاجرين غير الشرعيين الذين عبروا خلسة حدودًا غير محكمة المراقبة، بل جاؤوا وفق طلب استقدام تقدم به مواطن، اي علاقة عمالية، ولا نستطيع ان نقول إن جميع هذه الطلبات لم تكن مبنية على حاجة واقعية، تمامًا كما لا نستطيع ان ننكر أن هذه الصياغة العمالية تم استغلالها، ولسنوات طويلة من مواطنين لصناعة «بزنس» اسمه تجارة «الإقامات» حتى بات الوافد نفسه يعرف تمامًا «سعر» اقامته. وبات نمطًا شائعًا ان تسمع من احدهم عبارة «والله عندي سجل «اطقطق فيه»، فيما الترجمة الواقعية لهذه العبارة هي «لدي سجل أبيع من خلاله التأشيرات، وأستقدم وافدين ضمن علاقة عمل لا وجود لها سوى في الاوراق الرسمية».

وعندما طرحت صياغة تصريح «العمل المرن» الذي جاء لمعالجة جزئية ضحايا الاتجار بالتأشيرات من فئة العمالة الموجودة اصلاً في البلاد، تعالى النواح، والاتهامات لأجهزة الدولة المعنية، وتلقفت الاذهان المتحفزة لـ«الحلطمة» كل ما كان يساق من اتهامات، وكان المطلوب «شيطنة» التصريح المرن، فيما جميع المعطيات تقول ان الفئة الوحيدة التي تضررت من «المرن» هم تجار التأشيرات.

على الجانب الاخر، برزت مساكن العمال الذي صنع المجتمع وجع ديمغرافيتها، وزيف جدرانها، حين بات كل بيت قديم، انتقل منه سكانه المحليون، الى بيت اخر جديد، هو مشروع سكن عمال، يتم تأجيره او تضمينه لآسيوي يتولى تقسيمة الى غرف تتجاوز طاقته، وتتكدس فيه اعداد بشرية، حتى تطورت الظاهرة، وانتقلت الى ابتكار تأجير «الفرشة» بالساعات، وتناوب عدة افراد بالنوم على فرشة واحدة، نعم كل ذلك كان يجري امامنا، ورصدناه في الصحافة، لكن الحديث عنه كان شبه موسمي، نتناوله في الجرائد، في مجلس النواب، في المجالس، «نتلحطم» به قليلاً عندما يتورط عامل وافد بجريمة يلفظها ويرفضها المجتمع، ثم نمضي، ويبقى الوضع على ما هو عليه؛ لأن المجتمع اعتاد على نمط يدافع عن اي تغيير يمسه. والمفارقة في كل مرة كنا ننزل الى الشارع لإجراء تحقيق صحفي حول انتشار مساكن العمال، وتأثيراتها الاجتماعية لاسيما على الديمغرافية في احياء مثل «المخارقة، فرجان المحرق، القفول (بيفرلي هيلز) البحرين سابقًا، وغيرها»، كنا ندرك ان ما يشكو منه المواطن، لم يصنعه الآسيوي، بل صنعه مواطن اخر.

جاءت كورونا، ووجدنا انفسنا امام جائحة استقبلتها طبيعة مساكن العمال المكتظة، ووسائل نقلهم، وأسلوب حياتهم بالترحيب الحار. وفي الوقت الذي تركزت جهود السلطات المعنية في دول اخرى على التعامل مع تداعيات كورونا المباشرة، تضاعفت المسؤولية الاجتماعية والانسانية والاخلاقية في البحرين، عندما رأينا وزارة الداخلية تتولى وضع حلول مؤقتة لمشكلة تكدس العمال عبر نقلهم وإعادة تسكينهم في مساكن تراعي فيها الضوابط الصحية والانسانية، وتتولى توزيع الاطعمة على العمالة، ومنهم الكثير ممن فقدوا وظائفهم، وآخرون لم يعد اصحاب العمل يدفعون رواتبهم، وباتت وجبة طعام اكبر الطموح لإنسان ليس لديه سوى حياته التي سيخسرها اذا تركته للجوع، هذه التداعيات التي خلفتها كورونا، لكنها حتمًا لم تكن «كورونا» السبب في تكدس العمال بمساكن ضاعفت من فرص انتقال العدوى بينهم، ومع ذلك تعاملت وزارة الداخلية وفق منظور الامن المجتمعي، والمسؤولية الانسانية ازاء مقيميين على ارضها، وبذلت جهودا كبيرة كان واجبنا فقط ان نقابلها بالاحترام والتقدير، لا ان نترك المشهد بأكمله، والتقاط صور لطوابير العمال وتوظيفها للاساءة لجهود الداخلية، حتى وصل الامر ببعض هواة «السوشيل ميديا» ان يقول «هل جميع العمال مسلمين حتى توزع عليهم الداخلية الطعام في رمضان؟» ولربما أنسته هواية «الحلطمة» ان هولاء العمال بشر تحتاج اجسادهم الطعام كي يعيشوا تمامًا كما يحتاج جسده للطعام، فالجوع لا يعترف بالجنسية.

الآن بعد نحو ثلاثة أشهر من تعامل البحرين المثالي مع هذه الجائحة، لم يعد يقبل اي انتقاص من جهود «الجيش الابيض» الذي يخوض معركة طبية ضد فيروس شرس من اجلنا جميعًا. لم يعد يقبل ان يأتينا هواة العالم الافتراضي، ليسيؤوا لأي جهد يبذله منتسبو وزارة الداخلية في هذا الظروف الاستنثائية، او يفترض من يجلس في حجرة مكيفة يتسلى بهاتفه أن باستطاعته ان ينظر إلى رجل امن يقف لساعات طويلة دون راحة، وبهذا الطقس، ويزايد عليه في حب البحرين، والحرص على اهلها والمقيمين على ارضها.