ضمن معطيات الواقع العربي المملوء بالصراعات، وبنجاح القوى الخارجية بإغواء أجزاء كبيرة من المجتمعات المدنية العربية للانخراط في مماحكات طائفية وقبلية بليدة أو في الانخراط في عنف ديني إرهابي إجرامي، ليس أمامنا إلا إصلاح وتطوير وتفعيل جهتين قابلتين لتحقيق خطوات أولية نحو بناء مستقبل عربي أفضل.
الجهة الأولى هي الجامعة العربية والجهة الثانية هي القوى الديمواقراطية المدنية العربية.
أما الجامعة العربية فقد بدأ قيامها بروح بروتوكول الإسكندرية عام 1944 والذي شدد على أن قيام الجامعة هو استجابة لآمال الشعب العربي في الوحدة، وبالتالي إعطاء أولوية قصوى للاتجاه القومي. وكمثال على ذلك أورد البروتوكول أنه لا يجوز تحت أية ظروف اتباع أي قطر عربي سياسة خارجية تضر بسياسة الجامعة العربية أو أي عضو من أعضائها.
لكن ما إن مر عام على ذلك حتى حل ميثاق الجامعة الحالي محل البروتوكول، وشدد على إعطاء استقلال الدول الأعضاء وسيادتها مكانة شبه مقدسة في تركيبة الجامعة وفعلها. وقد أدت تلك الخطوة إلى إدخال الجامعة، وإلى يومنا هذا، في تهميش دور الجامعة في النظام العربي وفي منعها من اتخاذ مبادرات وحدوية، وفي جعلها منخرطة في التباينات بدلاً من كونها حكماً وملجأ وقائداً في الحياة العربية.
ولقد جرت عدة محاولات لتعديل الميثاق وإصلاح نقاط ضعفه؛ لكن جرى تجميد تلك المحاولات جميعها بفعل تراجع روح وعقلية التضامن والعمل الوحدوي العربي القومي، وهو بالضبط ما أوصل الوطن العربي إلى الحالة المزرية التي يعيشها حالياً.
قضية إصلاح الجامعة في جوانب أخرى كثيرة هي واسعة ومعقدة ومتداخلة؛ لكنها قضية وجودية في
المرحلة الحالية؛ وذلك إلى حين مجيء الوقت لطرح بدائل إنقاذية كثيرة أخرى بالغة الأهمية؛ لمواجهة فضيحة التخلف العربي الحضاري. إنها قضية وجودية لإنقاذ النظام العربي على مستوى السياسة والاقتصاد والأمن على الأخص. ذلك أن الأمل في قيام نظام عربي رسمي بمبادرة إنقاذية قد تلاشى بعد إنهاك وتدمير أهم الأقطار العربية.
وأما القوى المدنية الوحدوية فإنها هي الأخرى بحاجة
إلى إجراء معالجات وإصلاحات فكرية وتنظيمية جذرية قبل أن تعود لتلعب أدوارها التاريخية المطلوبة.
وإلى حين يتم ذلك فالأمل الوحيد هو خروج الطلائع الشبابية العربية بأسرع ما يمكن مما أصابها من تنكيل وتمزيق وسجن على يد القوى الكارهة والرافضة لكل الشعارات التي طرحتها الحراكات الجماهيرية.
بناء الزخم الشبابي، الواعي بأهمية التضامن العربي الوحدوي، ليس بالأمر المستحيل، وهو يحتاج إلى من يطرحه ويباشر بتنظيمه النضالي السلمي الديموقراطي في الكثير من الساحات الحقوقية والقانونية والمعيشية عبر الوطن العربي كله. وإذا كان هذا الأمل قد أصبح في حالة السكون والكمون مؤخراً فذلك بسبب وباء الكورونا الذي اجتاح العالم كله. والمتتبع لما يتداوله الملايين من الشباب العربي، في الوطن العربي كله، عبر شبكات التواصل الاجتماعي يستطيع أن يرى أن جذوة الرغبة في التغييرات العربية الكبرى لاتزال موجودة؛ بل في تصاعد مستمر.
المهم في الأمر كله أن نجذر في الأوساط الشبابية العربية الوعي المتوازن بالأهمية القصوى؛ لأن تكون الحراكات متناغمة وجزءاً من تيار تضامني وحدوي عربي جماهيري مماثل في روحه وتطلعاته للأجواء التي سادت الوطن العربي في الأربعينات والخمسينات من القرن الماضي، وقادت إلى إقناع رؤساء الدول العربية آنذاك بأهمية قيام نظام عربي مشترك، تكون الجامعة العربية في قلبه وخطوة أولى نحو نوع من توحيد هذه الأمة.
ثلاثة أرباع القرن قد مر على كل ذلك من دون أن يتحقق شيء ملموس، لكن تاريخ الأمم لا يقاس بالسنين وإنما بالمنجزات. والمنجزات ممكنة ومؤكدة إذا توافرت الإرادة السياسية عند قوى المجتمعات.