جائز لأي مواطن فلسطيني، أن يراقب، بنوع من الشماتة، بنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء الإسرائيلي، إذ يقف في قاعة محكمة مواجهاً تهم فساد مالي. لكن المسألة أبعد من مجرد أن يشمت الفلسطينيون في أول رئيس حكومة إسرائيلية، يُساق إلى ساحة القضاء أثناء توليه المنصب، مُتهَماً بالرشوة والنصب والاحتيال - رغم أنه ينفي التهم بالطبع - لأن واقع معاناة الفلسطينيين مع نتنياهو تحديداً يقول بوضوح إن الرجل تجاوز كثيراً من ساسة إسرائيليين سبقوه في الكذب والاحتيال والنصب، إضافة إلى الاستعلاء والصلف، في التعامل مع معاناة الفلسطينيين عموماً، وليس ساستهم فحسب. لكن الأخطر هو أن أضرار الأذى الناشئ عن فساد سياسات نتنياهو، تفوق ما أصاب المفاوضات الفلسطينية - الإسرائيلية وحدها، إذ تلحق الضرر بأمن منطقة الشرق الأوسط واستقرارها ككل.
استناداً إلى ذلك، وبسبب استمراء نتنياهو ممارسة أساليب الخداع بشأن دفع عملية السلام، فإن الضجر من مراوغات الرجل ليس جديداً، ولم يقتصر فحسب على القادة الفلسطينيين، وأغلب المسؤولين العرب، بل تعداهم إلى رجالات دول عدة. مثالُ ذلك القصة التي جرى تداولها عام 2011 عندما تسرب حديث جانبي بين الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي، والرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، قال خلاله الأول: «لا يمكنني تحمل نتنياهو، إنه كاذب»، فأجاب الثاني: «إذا كان الملل من التعامل معه أصابك، فإني مضطر للتعامل معه أكثر منك». كذلك فعل، تقريباً، ديفيد كاميرون، رئيس الوزراء البريطاني الأسبق، وأنجيلا ميركل، مستشارة ألمانيا، في العام ذاته، عندما حمّلا نتنياهو مسؤولية تعثر مفاوضات السلام مع القيادة الفلسطينية.
أمن العجب، إذنْ، إذا بلغ غضب الرئيس الفلسطيني محمود عباس، حداً لم يعد ممكناً معه تحمّل المزيد من الصبر على ألاعيب نتنياهو؟ كلا، على الإطلاق. إنما، هل أن ما ورد في بيان محمود عباس الثلاثاء قبل الماضي، يُعد بمثابة إلغاء تام لمجمل «اتفاق أوسلو»؟ هناك من اعتمد هذا التقدير. ولعله مصيب. لكن، بشيء من التروي، يمكن ملاحظة أن نبرة الغضب الفلسطيني، المُحِق تماماً، التي كانت واضحة كل الوضوح، اعتمدت في الآن نفسه، بتقديري، سياسة الباب المفتوح، إذ جاء في النص ما يلي: «دولة فلسطين ومنظمة التحرير أصبحتا في حل من جميع الاتفاقيات والتفاهمات مع الحكومتين الأميركية والإسرائيلية، ومن جميع الالتزامات المترتبة عليها بما في ذلك الاتفاقيات الأمنية». لو جرى التأمل بدقة في الصياغة، يمكن المحاججة أن إعلان التحلل من اتفاقيات، أو تفاهمات، ليس بالضرورة الإلغاء التام لها، بل الأرجح أن يعني تحميل الطرف الآخر، بوضوح، المسؤولية إزاء تخلي الطرف المتحلل منها، وبالتالي مطالبته بمباشرة تأديتها فوراً، وهو ما تضمنه النص الفلسطيني: «على سلطة الاحتلال الإسرائيلي تحمل جميع المسؤوليات والالتزامات كقوة احتلال في أرض دولة فلسطين وفق القانون الدولي». رغم ذلك، يمكن لأي شخص المجادلة أن كلام الرئيس محمود عباس ألغى «اتفاق أوسلو»، كلياً، من منطلق قوله إن «ما ورد في اتفاق الائتلاف الحكومي الإسرائيلي، وخطاب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أمام الكنيست، يعني إلغاء اتفاق أوسلو والاتفاقات الموقعة كافة».
بيد أن الأهم من الجدل بشأن ما إذا كان الطرف الفلسطيني قد تخلى بالفعل نهائياً عن «اتفاق أوسلو»، أم أن باب العودة إلى العمل به لم يزل مفتوحاً، هو تحميل بنيامين نتنياهو تحديداً مسؤولية وصول القيادة الفلسطينية إلى هذه النقطة، ومن ثم الوصول بالعملية السلمية ككل إلى طريق مسدود. تُرى، من هو الطرف الذي يجب أن يتولى مهمة إقناع الرأي العام الإسرائيلي ذاته أن قيادته السياسية، سوف تتحمل وزر ارتفاع منسوب التوتر مع الفلسطينيين، بكل ما قد ينتج عن ذلك من عواقب، خصوصاً في الجانب الأمني؟ ثمة من حاجج، أنه ربما كان مفيداً للجانب الفلسطيني لو أبقى هامش التواصل مع الولايات المتحدة قائماً، فلعل معجزة ما تحصل وتمارس شيئاً من الضغط على نتنياهو لوقف خطط الضم المزمعة. لكن الرد على ذلك موجود في كلام الرئيس محمود عباس، الذي لم يوفر في الغضب إدارة الرئيس دونالد ترمب، إذ رأى أن واشنطن «شريك مع دولة الاحتلال في جميع إجراءاتها العدوانية بحق الشعب الفلسطيني». إذنْ، لم يبق سوى التكاتف الفلسطيني، وأضعف الإيمان في هذا السياق هو الكف عن المزايدات الجانبية، والارتقاء في التنسيق بين التنظيمات كافة أرقى درجات المسؤولية.