لعبة الأمم في ليبيا تدخل المرحلة التي دخلتها في سوريا قبل خمس سنوات: تغيير الموازين العسكرية بفعل التدخل المباشر لقوة خارجية في حرب تدار بالوكالة، وتدخّل غير مباشر من قوى متعددة.

ففي خريف 2015 قرر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين زجّ القوات الروسية في حرب سوريا، وكانت دمشق مطوّقة من الغوطة، وتنظيم "داعش" الإرهابي يحتل نصف سوريا، والمعارضون المدعومون من تركيا وأميركا ودول عربية يسيطرون على نصف مدينة حلب ومحافظة إدلب ومعظم حوران وجزء من ريف حماة واللاذقية، وكانت إيران التي تدعم النظام السوري بشكل مباشر وغير مباشر قد وصلت إلى العجز عن حماية النظام واستنجدت بروسيا.

وكان الرئيس باراك أوباما قد تراجع عن "الخط الأحمر" الذي رسمه وتوجيه ضربة عسكرية إلى النظام، لم يقف أحد في وجه روسيا، ولا تحدّث بوتين عن "نهاية الأعمال القتالية الأساسية" إلا بعدما استعاد حوالى 66 في المئة من الأرض للنظام الذي قال وزير الخارجية سيرغي لافروف إنه كان "على وشك السقوط خلال أسبوعين".

وفي ربيع عام 2020 قرر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان التدخل المباشر في حرب ليبيا لدعم حكومة فايز السراج المعترف بها دولياً، والتي هي عملياً خيمة للإخوان المسلمين وقوات الإسلام السياسي بما فيها من "داعش" و"القاعدة"، كانت الحرب التي يخوضها الجيش الوطني الليبي بقيادة خليفة حفتر على أبواب طرابلس العاصمة، والقوى الخارجية تعمل بشكل غير مباشر، قطر تموّل وتسلّح الفريق المدعوم من تركيا، وروسيا ومصر والإمارات العربية في جانب آخر، وفرنسا في جانب، وإيطاليا في جانب آخر، ولم يقف أحد في وجه أردوغان، إلا عبر إدانة التدخل، وإعلان "القلق" الذي عبّر عنه الاتحاد الأوروبي، ولا كان القرار الدولي المانع لتصدير الأسلحة إلى ليبيا موضع احترام، كذلك الأمر بالنسبة إلى إرسال المرتزقة، إذ أرسلت تركيا حوالى تسعة آلاف مرتزق من الذين حاربوا تحت جناحها في سوريا، وهكذا أعلن وزيرا الخارجية والدفاع التركيان "قلب الموازين العسكرية".

وفي كتاب جديد تحت عنوان "قصة أربعة عوالم: المنطقة العربية بعد الانتفاضات" يقول المؤلفان ديفيد أوتاواي ومارينا أوتاواي "الخلافات العربية قادت إلى تدخل تركيا وإيران وأميركا وروسيا، والانتفاضات عجلت في الدخول الواسع لمنظمات الإسلام السياسي في الأحزاب الرسمية".

وفي كتاب "حب قاسٍ: قصتي عن الأشياء التي تستحق القتال من أجلها"، تروي سوزان رايس، وكانت يومها مندوبة في الأمم المتحدة قبل أن تتولى منصب مستشارة الأمن القومي في عهد باراك أوباما، أن "الربيع العربي كشف انقسام أجيال في الإدارة"، كيف؟ "عندما اقترب القذافي من تدمير بنغازي، فإن القدماء من عصر البوسنة ورواندا مثل بايدن وغيتس ودونيلون حذروا من دخول حرب أخرى في الشرق الأوسط، لكن هيلاري كلينتون وقفت مع التدخل، فتدخلت أميركا وأنقذت بنغازي وساهمت في إسقاط القذافي".

وليس البحث عن مغامرة خارجية لتغطية مشكلات في الداخل هو السبب الوحيد الذي دفع أردوغان إلى التدخل في ليبيا، فهناك أسباب أكبر وأهم، أولها دعم حكم الإخوان المسلمين في ليبيا المجاورة لمصر التي ضربت الإخوان، وثانيها البحث عن دور وحصة في "نادي الشرق الأوسط" للنفط والغاز، وثالتها حماية استثمارات تركية في ليبيا بلغت حوالى 29 مليار دولار في مشاريع عدة، وليس عرض الشركة الوطنية التركية للنفط القيام بالتنقيب في الشواطئ الليبية سوى ترجمة لمعادلة واضحة: دعم عسكري تركي، مقابل نفط وغاز ونفوذ في ما تسميه أنقرة "الوطن الأزرق"، فضلاً عن أن أردوغان لم يكتم اللعب بورقتين مختلفتين: ورقة السلطنة العثمانية التي كانت ليبيا جزءاً منها، وورقة أتاتورك الذي قاتل في ليبيا وأصيب بجروح في الحرب العالمية الأولى، ثم أقام الجمهورية على أنقاض السلطنة، لا بل أعلن أن معظم سكان مصراته هم من أصول تركية.

لكن لعبة الأمم أشد تعقيداً مما تبدو في الظاهر، فلا قوة روسيا حسمت الوضع في سوريا التي لا تزال موزعة بين قوات إيرانية وروسية وأميركية وتركية، ولا شيء يوحي أن التسوية السياسية قريبة، ولا أحد يعرف إن كان مستقبل البلاد هو الفيديرالية الدستورية الواضحة أو اللامركزية، وأردوغان عاجز عن حسم الوضع في ليبيا لمصلحة الإخوان المسلمين في مواجهة بنغازي والدعم الروسي والمصري لها وفي تجاهل للإجماع الدولي على الحاجة إلى حل سياسي في بلد كان أصلاً ثلاثة أقاليم قبل أن تتوحد في المملكة السنوسية، ثم تصبح نظاماً عائلياً بلا دولة أيام القذافي.

وإذا كان التاريخ يتكرر، بحسب ماركس، من "مأساة إلى ملهاة"، فإن التاريخ الحديث في ليبيا يتكرر بشكل معكوس: من "ملهاة إلى مأساة".