الثقة بالقطاع المصرفي اللبناني أصبحت من الماضي. لم يعد ممكنا ترميمها. هذه حقيقة قاسية ينبغي للدولة والمجتمع اللبناني التصرف على أساسها. هذا لا يعني تحميل المصارف اللبنانية وحدها مسؤولية الانهيار ولكنها حتما عليها أن تدفع ثمن تواطئها الطويل مع الطبقة السياسية واستمرار قبولها ودائع عملائها دون أن تخبرهم أنها ودائع مهددة. أي باختصار خانت ثقتهم.
انتهت الثقة بالقطاع المصرفي أي “انتهت” المصارف اللبنانية. هذه حقيقة باتت تمثل تحولاً تاريخياً يشبه انتقال جبل لبنان من زراعة دودة القز التي تأتي منها خيوط الحرير وكانت تستخدمها صناعة النسيج في ليون في فرنسا. كان ذلك في التاريخ الاقتصادي للبنان تغيّراً بالغاً ساهم في توجيه اقتصاد "لبنان الكبير" نحو قطاع الخدمات الذي هو في المائة عام المنقضية مصدر رفاهية وحرية ونكبات لبلدنا الصغير في آن معاً.
انقرضت زراعة ومعامل دود القز نهائيا وحلت مكانها زراعات ومهن أخرى. في حالة قطاع المصارف اليوم الانتقال مختلف. لأنه ما من بلد في العالم يستطيع أن يستغني عن المصارف. ما العمل إذن؟
بكل اختصار ينبغي على الدولة تصفية المصارف اللبنانية الحالية مع حفظ ودائع المودعين ولدى المصارف موجودات عقارية ضخمة يمكنها أن تكون ويجب أن تكون أساس أو أحد أكبر أسس تعويم الودائع. هذا هو المعنى الحقيقي لتعبير " إعادة هيكلة القطاع المصرفي" سواء كان ذلك دمجاً أو تصفيةً.... دون أن يُرغم المودعون على المشاركة رغما عنهم في تصفية "تفليسة" مخادِعة.
دعونا لا نذرف دموعاً على أموال أصحاب المصارف. لقد أصبحت في الخارج. وأصحاب المصارف أمّنوا ثروات في الخارج تعيل وتخدم وترفِّه حتى أحفاد أحفادهم في أوروبا و الغرب.
إذن لنضع دموع التماسيح جانباً لأنه لا مآسي هنا بل مجموعة من الأثرياء من أصحاب البنوك "السابقة" لديهم مئات ملايين من الدولارات محوّلة إلى مصارف الغرب ومعها أموال شركائهم من السياسيين اللبنانيين الذين نهبوا القطاع العام.
ما البديل إذا كنا لا نستطيع الاستغناء عن وجود مصارف؟
البديل ببساطة هو فتح فروع في بيروت للمصارف الأجنبية الأوروبية والأميركية الكبيرة والصينية والروسية والخليجية كمرحلة تعيد ثقة اللبنانيين. أفترض أن اقتراحا كهذا يتطلب إدارة الدولة اللبنانية لخطة شاملة من التفاوض مع بنوك عالمية كبرى لإقناعها بذلك. لماذا لا تكون المصارف الخمسة الجديدة التي اقترحت الخطة الاقتصادية لحكومة الرئيس حسان دياب تأسيسها هي ترجمة لوجود فروع لمصارف أجنبية كبرى في العالم تقبل أن تفتح فروعاً في لبنان وستكون حتما قادرة على استقطاب ودائع داخلية و خارجية صار من المستحيل على المصارف اللبنانية الحالية أن تستقطبها، لأن اللبنانيين في الداخل والخارجي ما عادوا يعتبرونها مصارف جديرة بالثقة.
لقد انتهى القطاع المصرفي الحالي ولا يمكن في الجيل الحالي أن يكون له أي مستقبل. سقط أصحاب المصارف في الحفرة العميقة التي رمتنا فيها جميعاً الطبقةُ السياسية، وقاموا بمزيج من الجبن والطمع بتغطية وصولنا إلى ما وصلنا إليه. سيشعر اللبنانيون بالثقة من الآن فصاعدًا بوجود أموالهم على أرضهم في بنوك غربية أو خليجية إذا افترضنا حصول ذلك.
نعرف في العمق أن "انتداباً" مصرفيا على العمل المصرفي يمكن أن يكون شبيهاً بالدعوة إلى تجديد انتداب أوروبي أو أميركي على الدولة اللبنانية. ولبنان الذي نعرف هو وليد انتداب فرنسي منذ مائة عام . انتداب صار معظم النخب اللبنانية بما فيها نخبُ مناطق ضُمّت قسرًا إلى الكيان اللبناني الجديد عام 1920 صاروا يذكرونه بالحسنى.
هناك صيغ "ملطّفة" للانتداب المصرفي لا شك أنها تحظى بتأييد اللبنانين في الداخل والخارج. أرجوكم هنا لا أريد أن أسمع محاضرات في العفة السيادية. فعندما تُنهب وتُجمّد ودائع بل ثروات شعب بكامله ومعه مودعون من جنسيات سورية وعربية (ثلاثة ملايين دون عائلاتهم) يصبح الحديث عن السيادة نوعاً من الكلام الفارغ من أي معنى بل هو أشبه ما يكون بارتكاب جريمة قتل على منبر جامع أو مذبح كنيسة. وهي هنا جريمة قتل جماعي.
المشكلة الحقيقية تكمن في السؤال: لو افترضنا أن الدولة اللبنانية سارت في هذه الخطة، هل ستقبل المصارف العالمية أو بعضها بفتح فروع عندنا والبلد يئن تحت وطأتين بنيويّتين هما وجود طبقة سياسية قوية و مفضوحة الفساد تمنع الإصلاح ووجود حالة حربية ترهن الدولة اللبنانية في أي لحظة للصراع الإقليمي والدولي الحاد؟
الفراغ في أكبر أعمدة نظام الخدمات حصل. ماتت الثقة بالقطاع المصرفي الحالي والتفكير يجب أن يتجه في هذا الاتجاه من الآن فصاعداً أياً تكن التصورات متباينة. صار الطب يستبدل قلباً بقلبٍ آخر. علينا أن نستبدل القلب الميت للاقتصاد اللبناني بقلب مصرفي جديد.