في حين يعد الماء والصرف الصحي والنظافة الشخصية الجبهة الأمامية ضد “كوفيد-19”، تشهد مدن وبلدات وقرى في العراق تلوثاً خطيراً في مصادر مياه الشرب والاستخدام اليومي، تحديداً في المناطق التي تعاني أكثر من غيرها من تفشي وباء كورونا المستجد. ففي قضاء المُدَينة شمال مدينة البصرة جنوب البلاد، يواجه السكان البالغ عددهم 255 ألف شخص، من مرض الطفح الجلدي بسبب المياه الملوثة، فيما لم تتخلص البلدة من آثار وباء “كورونا”، إذ أُصيب فيها ما يقارب 100 شخص منذ بداية تفشيه في العراق، وما زال أكثر من 20 شخصاً يخضعون للعلاج المُركّز في مستشفى البلدة الوحيد. وفقدت مئات العائلات إثر فرض الحجر الصحي بغية لجم انتشار واسع للفايروس في هذه البلدة النفطية إن جازت التسمية، أعمالها ومصادر عيشها، ما زاد إلى الأوضاع المعيشية والصحية والبيئية بين السكان أعباء إضافية.

وانتشر مرض الطفح الجلدي في هذه البلدة المحيطة بحقول نفطية مشتعلة ليلاً ونهاراً كما يصفها أحد أبنائها، جراء تلوث مياه الإسالة والاستخدام اليومي بين السكان، وأدى إلى إدخال العشرات منهم إلى المستشفى، ما أعاد إلى الأذهان صور أزمة صحية أخرى مماثلة ضربت محافظة البصرة صيف عام 2018، سببتها المياه الملوثة وأُصيب أكثر من 12000 ألف شخص، أغلبهم من الأطفال. يشير ميثم أحمد، وهو ناشط مدني ويعمل في مركز النماء لحقوق الإنسان إلى أن المخاوف من عودة أزمة البصرة الصحية، أصبحت واضحة في قضاء المُدَينة وأُصيبت أعداد كبيرة من السكان بأمراض جلدية. وأُصيب أفراد من عائلة ميثم أحمد نفسه بمرض الطفح الجلدي أو الحكّة الجلدية، كما يسمى بلهجة أبناء المنطقة، وهي عبارة عن طفح جلدي يظهر على الأقدام وفي ظهر كف اليدين وفي حال حكّه باستمرار ينزف الجلد دماً. يقول ميثم: “حصلت الإصابة داخل عائلتي وحين ذهبنا إلى المستشفى من أجل الحصول على العلاج، فوجئت بوجود أعداد كبيرة من السكان وهم مصابون من الطفح الجلدي”، مضيفاً أن بلدته كانت تعاني في الأساس في كثرة المصابين بفايروس كورونا مقارنة بعدد سكانها.

وبدأ المجتمع المحلي ينتابه الخوف من انتشار هذا المرض الجلدي فيما لا يزال يحارب ضد الوباء التاجي بإمكانات بشرية وتقنية متواضعة. ويشير ميثم أحمد إلى أن البلدة تفتقر إلى السيطرة النوعية، الصحية والبيئية في ما خص المياه الصالحة للاستخدام المنزلي، ذاك أنها مختلطة بمياه المبازل بحسب قوله ويؤدي استخدامها إلى المرض الجلدي المذكور. ويقوم ميثم إن “محطات تحلية المياه RO ما زالت تستخدم وسائل نقل قديمة وبالية وغير صحية، وهي مخصصة لتحلية مياه الأنهر العذبة وليس المياه المالحة ذات التراكيز العالية”. ويعد تدفق مياه الأهوار الجنوبية إلى الأنهر التي تغذي البلدة السبب الرئيسي لهذا التلوث، وما يسمح بتحول مياه الأهوار إلى الأنهر هو انحسار تدفق المياه في نهر الفرات. يذكر أن الأهوار العراقية بحسب الباحثين، أصبحت عبارة عن مياه المبازل وعملية غسل الأراضي بعد فترات جفاف عصيبة، ومن شأنها تلويث الأنهر العذبة في فترات الانحسار وتحويلها إلى حاضنات للأمراض، إضافة إلى الحاق أضرار بيئية وتخريب التنوع الأحيائي.

أنهر قاتلة

ليست البصرة، مركز المحافظة، أفضل حالاً من المُدَينة التي تتبع لها إدارياً، فهي الأخرى تعاني من تلوث مائي مخيف، ناهيك بتلوث تربتها وهوائها، جراء تلوث قنوات المياه والأنهر المتفرعة من شط العرب والصناعة النفطية واستفحال مساحات التصحر، إذ تلامس 90 في المئة بحسب الباحث البيئي حيدر ابراهيم. تحولت قنوات مياه هذه المدينة الجنوبية التي تُوصف بعاصمة العراق الاقتصادية، إلى مكب للنفايات، فيما تحولت مياه صرفها إلى أنهر قاتلة تجري داخل المدينة. في صباح باكر، قبل احتجاجات تشرين الأول/ أكتوبر 2019، توجهت إلى مركز المدينة للنقل العام، وما أثار انتباهي قبل وصولي إلى المركز، هو انعكاس ضوء الشمس الصباحي على نهر يمرّ من أمام بوابة “الكراجات”. سألت سائق الأجرة الذي أقلني عن اسم ذلك النهر، نظر الي بنوع من الاستهزاء سائلاً، عن أي نهر تتكلم، إنه ماء وسخ؟ وحين اقتربنا من البوابة شعرت باختناق شديد بسبب رائحة المياه الآسنة ذات اللون الأسودال قاتم، قلت للسائق أن يغلق نافذة السيارة. فأجاب: “يبدو أنك لست من المدينة، لقد تَعَوَد الناس هنا على هذه الروائح”. ودخل إلى شط العرب بطبيعة الحال.

سألت الباحث البيئي حيدر إبراهيم حول تأثير هذه المياه الآسنة وتلك الملوثة في المُدَينة في صحة السكان المحليين، فأشار إلى أن المياه الملوثة إضافة إلى الأمراض التي تسببها، الأمراض الجلدية تحديداً، تقضي التنوع الأحيائي أيضاً، بخاصة في حالة المُدَينة، حيث تختلط المياه الملوثة بالأنهر، فإضافة إلى خطورتها على السكان، تظهر آثارها على الكائنات المائية، ذاك أن المياه بحسب الباحث “كتلة حية، فيها الأسماك والأحياء الأخرى وكائنات تتعرض في الأساس للانقراض بسبب التغيرات المناخية”. وتُبين صور نشرها سكان محليون نفوق الأسماك في الأنهر المحيطة ببلدة المُدَنية.

ولا تزال غالبية المدن في العراق أسيرة واقع صحي وبيئي مزري: برك المياه الآسنة والملوثة تميز الأزقة والأحياء السكنية، يتم تفريغ مياه شبكات الصرف الصحي في الأنهار وتفيض الشبكات ذاتها مع هطول الأمطار، ولا تزال هناك قرى وبلدات عراقية، إضافة إلى التغوط في العراء، يعتمد سكانها على جداول مياه مالحة وغير معالجة للاستخدام اليومي. يتم تفريغ مياه الصرف الصحي بمدينة الديوانية في الفرات الأوسط في فرع من فروع نهر الفرات في وسط المدينة. أما في المناطق السكنية التي تنعدم فيها شبكات الصرف الصحي، فتبقى برك المياه في الأحياء السكنية والشوارع وتُشكّل مع مرور الوقت طيناً أسود لزجاً، تفوح منه روائح كريهة وتجذب جميع أنواع الذباب.

الجبهة الأمامية في محاربة الوباء أكثر هشاشة من غيرها في العراق، ذاك أن البلد يفتقر إلى أدنى مقومات الصحة العامة المتمثلة بمياه صالحة للشرب والاستخدام والنظافة.

يشير الدكتور محمد العسكري، عميد كلية التقانة الأحيائية في جامعة القادسية بالديوانية إلى أن البرك المائية الآسنة داخل المدن في العراق تزيد من الأخطار على صحة السكان، ذاك أنها كما يقول “حاضنة لتكاثر البعوض وانتشار أمراض ملاريا وغيرها”. ويرى العسكري أن الخلل يكمن في تصميم البنى التحتية في المدن، حيث تذهب مياه الأمطار غير الملوثة إلى مجاري مياه الصرف، ما يجعلها تفيض أثناء هطول الأمطار الكثيرة وتطفح إلى الشارع، وتدخل البيوت أحياناً. وقد عمل العسكري على نشر التوعية والثقافة في مجال الوقاية من وباء “كورونا” وتداعياته، وأشرف على دورات تدريبية للكوادر الصحية في محافظة الديوانية بهدف العمل على تقنية QRT-PCR لتشخيص فايروس “كورونا” في كلية التقانة الأحيائية.

مشكلة تاريخية

كانت المدن العراقية تتصف تاريخياً بقلة نظافتها وكثرة البرك والمستنقعات فيها، ولم تبذل السلطات العثمانية أيام حكمها العراق أي جهود ملموسة لتحسين صحة السكان. وفي مذكراته عن رحلة قام بها إلى اليمن وبلدان عربية أخرى من ضمنها العراق، يصف عالم الرياضيات ورسام الخرائط الدنماركي كارستن نيبور (1733-1815)، مدينة البصرة بـ”أنها أكثر مدينة إسلامية في القذارة وفقدان النظافة وأكثر البيوت تصب المياه القذرة لمطابخها في الطرق التي ليست معبدة بالحجارة”. ويضاف إلى ذلك عدم الاهتمام بالبيئة وحمايتها من التلوث مثل وجود مقابر ومذابح ومحلات الذبح داخل المدن وعدم توفر مياه صالحة للشرب وضعف نظام تصريف المياه الاسنة والثقيلة، بحسب الباحث العراقي علي السرحان.

وقد كرّس الروائي الكاتب والروائي العراقي زهير الجزائري صفحات من رواية “باب الفرج” للحديث عن تفشي الطاعون في مدينة النجف أواخر الحكم العثماني، وكانت المياه سبباً من أسباب زيادة عدد المصابين. ويركز الروائي في جانب من سرده الروائي للأحداث التي تدور في هذه المدينة التاريخية-الدينية على دور المياه في زيادة انتشار الوباء. وحين تتكاثر أعداد الموتى وتخرج سرعة انتشار الطاعون عن السيطرة، يذهب طبيب المدنية، المرزا، إلى الشيخ كاشف الغطاء، ليعلمه بأن غسل الموتى يزيد الأمر سوءاً، ذلك أن الماء يسيح في الأزقّة وفي باحة الصحن أو الروضة الحيدرية، ضريح الإمام علي، ويطالبه بتشريع يوقف ذلك، ويوقف قدوم الجنائز. يقدم الجزائري صورة جلية عن المياه الملوثة الجارية في أحياء المدينة، يقف فيها الطبيب حائراً بين وعيه بعلوم الطب وبين إيمانه العميق بالقدر حيث يضع في مدخل عيادته بيتاً لابن الرومي: والناس يلحون الطبيب وإنما خطأ الطبيب إصابة الأقدار.

وحذرت ورقة بحثية في كلية العلوم الطبيعية في جامعة ستيرلينغ البريطانية من أن نظام الصرف الصحي قد يزيد خطر انتقال الفايروس المستجد. وأشارت الورقة التي نشرت في 6 أيار/ مايو 2020 في مجلة Environment International، بعنوان “كوفيد-19: الآثار البيئية على تساقط سارس كوف-2 في البراز البشري“، إلى ان الكثير من البلدان وضعت تدابير التباعد الجسماني، للحد من انتشار المرض من شخص إلى آخر. ولكن مع ذلك، تأكد أخيراً أن الفايروسات المعدية يمكن إيجادها في البراز البشري أيضاً، وذلك اعتماداً على تحاليل سابقة تعود إلى فترة انتشار فايروس سارس (2003-2005). وفي ظل صعوبة إجراء الفحص لغالبية الناس والتنبؤ بحجم انتشار الفايروس عبر البراز البشري مكانياً، قد تكون مراقبة مياه الصرف الصحي أداة مفيدة لتوضيح أين ينتشر الفايروس بين البشر. وتشير الدراسة المذكورة إلى أن إدارة نفايات براز المرضى المصابين تشكل تحدياً كبيراً في المستشفيات.

ويشير الدكتور محمد العسكري في هذا السياق، إلى أن سلوك الفايروس غير واضح، والمعلومات قليلة عنه، ذاك أنه فايروس مستجد وتستجد عنه الأبحاث والمعلومات يومياً، إنما إمكانية انتقاله عبر مياه الصرف مؤشر خطير، بخاصة أن العراق برأيه، مثله مثل دول أخرى في المنطقة ليس مهتماً بمعالجة مياه الصرف. وسيكون بالتالي عرضة لجموح الفايروس عبر هذا النوع من المياه في حال أثبتت الأبحاث العلمية ذلك. يركز العسكري في حديثه على النظافة والمياه النظيفة والارتقاء بمستوى التوعية بين العراقيين كخط أمامي في جبهة مواجهة الوباء، مشيراً إلى “ضرورة تحديث البنى التحتية وشبكات الصرف الصحي، مياه الإسالة، ناهيك بإيجاد الحلول لأزمة المخلفات التي تعاني منها شوارع غالبية المدن في العراق وهي حاضنة لنقل الجراثيم وتكاثر الذباب”.

اقتضاباً، لا تختلف أحوال غالبية المناطق والمدن العراقية عن أحوال قضاء المُدَينة هذه الأيام، فكما تندفع المياه الملوثة الملونة من صنابير هذه البلدة الجنوبية، تندفع من صنابير بلدات ومدن أخرى كثيرة وتزيد من أعباء أمراض جديدة إلى جائحة “كورونا”. تالياً، يمكن القول إن الجبهة الأمامية في محاربة الوباء أكثر هشاشة من غيرها في العراق، ذاك أن البلد يفتقر إلى أدنى مقومات الصحة العامة المتمثلة بمياه صالحة للشرب والاستخدام والنظافة.