ما الذي يجعل راشد الغنوشي يتمسك بالسلطة إلى حد أنه مستعد إلى خرق جميع القواعد الدستورية في سبيل تحقيق مصالحه ورغباته، وتحدي إرادة شعب بأكمله للحفاظ على نفوذه؟

تبدو الإجابة سهلة، إذ يمكنه من موقعه كزعيم لحركة النهضة ورئيس للبرلمان التونسي كسب المزيد من النفوذ.

بيد أن الواقع يشير إلى أن ثمة أشياء أخرى أكثر تعقيدا يخشاها الغنوشي من مجرد خسارة موقعه، ولديه أسباب وجيهة في هذه اللعبة السياسية، أو شيء يتعلق بالنفوذ الذي يمنحه له الدين والسلطة معا. لكن رجل الدين الذي ترك جلبابه الإخواني وارتدى ربطة عنق السياسي وجد نفسه في مأزق يتمثل بالضغوط والاستهداف الذي طاله بوصفه رئيسا للبرلمان مثل أي سياسي يتعرض للنقد. وانتهت سنوات الاسترخاء التي عاشها متواريا خلف من يمثل حزبه، سواء في الحكومة أو داخل البرلمان.

عندما قرر الغنوشي العودة إلى تونس في عام 2011 بعد الثورة التي أطاحت بالرئيس الراحل زين العابدين بن علي قال حينها إنه “لن يعود مزهوا بنشوة الانتصار ويطالب بمنصب في الحكومة بل سيعود كمواطن عادي” حسب ما جاء حينها على لسان الناطق الرسمي باسمه.

وأعرب أيضا عن استعداده لتسليم قيادة الحركة لجيل الشباب في أعقاب الاضطرابات التي شهدتها تونس والتي أطاحت بحكم بن علي.

لكن لا هذا ولا ذاك حصل، ومن الواضح أن كلام الغنوشي كما يقول التونسيون في المثل الشعبي الشهير “مدهون بالزبدة”، فبمجرد أن طلع النهار ذاب وتبخر مثلما تبخرت الكثير من الوعود التي أعلن عنها الغنوشي شخصيا، وهي القطع النهائي مع منظومة الاستبداد والفساد وتوفير الشغل والعيش الكريم للمواطن التونسي.

لقد أغلق رئيس البرلمان التونسي وزعيم النهضة عينيه على الأخطاء الكثيرة التي ارتكبها منذ أن عاد للبلاد، بعد أن قضى عشرين عاما في المغترب اللندني، بل تمادى في ارتكاب المزيد منها، متناسيا بالطريقة التي تناسبه أن حركته تولت الحكم في فترة تعتبر حارقة من تاريخ تونس، ولم تف حكومة الترويكا التي قادتها النهضة بوعودها الانتخابية، بل حاولت المناورة لإبراز الوجه المدني والديمقراطي للحركة، بيد أن ذلك كشف عن حالة الانفصام التي اتسمت بها الحركة، فهي تؤمن بالشيء ونقيضه في الوقت نفسه، فعلى سبيل المثال تدعو لإرساء الديمقراطية ولكنها لا تؤمن بفصل الدين عن السياسة.

من يراجع ما آلت إليه الأوضاع في تونس عندما تولت حركة النهضة الحكم في تونس وأيضا قيادة الغنوشي للبرلمان، سوف يجد خطاً مستقيماً وسريعاً نحو التأزم، وجميع الأمور الاقتصادية والاجتماعية مضت أيضاً في الاتجاه المعاكس، أي أكثر سوءا مما كانت عليه قبل حكم الرئيس الراحل بن علي، مع ذلك يبدو الغنوشي واثقا من نفسه أكثر مما ينبغي، رغم أنه ارتكب أخطاء شنيعة كانت لها مخلفات خطيرة على الوضع في البلاد التونسية، مما زاد في تعميق معاناة التونسيين على جميع الأصعدة.

قائمة أخطاء الغنوشي تطول لتجعل من كل الذرائع التي يسوقها للتغطية على الفشل الذريع لسياسته المتغطرسة والتقليل من آثارها غير مجدية، فهو يكشف كل يوم بما لا يدع مجالا للشك أن غطرسته أكثر اكتمالا من غطرسة القادة المستبدين، إنه على اعتقاد راسخ أنه يستطيع أن يمتلك تونس كضيعة خاصة به. وهذا ما يفسر لنا اتصالاته المستمرة بالرئيس التركي رجب طيب أردوغان بطريقة تفتقر إلى الدبلوماسية الحكيمة وتتجاوز التراتبية الحكومية والاتفاق على قضايا ليست من صلاحياته، وإنما من مهام رئيس الدولة قيس سعيد ورئيس الحكومة إلياس الفخفاخ.

تقول مجموعة أبحاث إن منح السلطة إلى أنماط الشخصيات المتغطرسة، حتى ولو بشكل تعسفي لفترة قصيرة، يؤدي إلى تغيير سلوكهم، إذ يبدأون في التصرف بطرق يستفيدون منها، ويفقدون تعاطفهم مع الآخرين، فضلا عن الاعتقاد بأنهم على حق في كثير من الأحيان. ومن المنطقي إذن أن يصبح الغنوشي أكثر غطرسة، ويعتقد أنه الوحيد القادر على إصلاح أوضاع البلاد السياسية والاقتصادية، وقد يغيب عن ذهنه أن يرى من هم أفضل منه لوضع حلول مجدية لمشاكل للبلاد، وخصوصا عندما يعين أشخاصا يؤيدونه في كل شيء، ويمنع أشخاصا يعارضونه، وربما ليس لديهم أي تقدير للأخطاء السياسية التي يرتكبها.

وبناء عليه، فإن المقولة التي تُنسب غالبا إلى الرئيس الأميركي الأسبق أبراهام لنكون تبدو منطقية، وهي أن “معظم الرجال تقريبا يستطيعون تحمل الشدائد، ولكن إذا أردت اختبار معدن رجل، فامنحه السلطة”.

لكن الوقت لم يفت بعد لتغيير محور الغطرسة في البلاد التونسية ومصدر القرارات الخائبة، ونمط القيادة الذي يقصي وينتهك الآخرين.

العرب اللندنية