هذه المرة اختار موقع التدوين العالمي «تويتر» معركته جيداً، حدد هدفه بعناية واستعد برشاقة، ثم أطلق سهامه باتجاه رئيس أكبر دولة في العالم، بعد أن اتخذ قراراً غير مسبوق، ولأول مرة، بنشره رسالة تحذير تقول: «تحقق من الحقائق» بشأن تغريدة لترمب تلمح إلى أن الانتخابات الرئاسية الأميركية المقبلة ستزوّر، ثم مضى بحجب تغريدة أخرى للرئيس الأميركي علق فيها على أحداث مينيابوليس، إذ رأت الشركة فيها «تمجيداً للعنف»، قبل أن تتراجع إدارة «تويتر»، أمس، وتؤكد أنها لم تجد أي مخالفة لقواعدها في التغريدة، في مسار معاكس لما قررته في معركتها التصعيدية الكبرى، مما فاجأ المتابعين حول العالم، سواء أولئك الذين أيدوها في موقفها السياسي، أو الذين عارضوها واعتبروا أنها معركة مفتعلة، وأن تغريدات الرئيس ليست متطرفة، أو تخرج عن السياق الذي تسير فيه آلاف التغريدات للسياسيين حول العالم.
في تقديري، «تويتر» خططت لهدفها في حربها ضد ترمب وحققت مبتغاها، على الأقل حتى هذه اللحظة، قبل أن تعود تكتيكياً خطوة للخلف، فلم تكن إجراءاتها ضد تغريدات الرئيس الأميركي نابعة من قواعد صارمة تدعي المحافظة عليها، بدليل أن كثيراً من الزعماء والسياسيين يحرضون على العنف، ويتحدون أنظمة العالم، كما أقطاب النظام الإيراني، ومع ذلك لم تتخذ بشأنهم أي إجراءات مماثلة، بينما من شأن معركة تجذب العالم ضد رئيس أقوى دولة في العالم، يتابعه نحو مليون متابع، من ضمن مليون مشترك في الموقع، ستفضي إلى تعزيز مكانة وقوة الموقع بين منصات التواصل الاجتماعي، الذي لا شك سيستفيد تسويقياً من هذا التحدي المثير، حتى وسهم الشركة يتراجع بعد أن سجل خسائر بنسبة . في المائة، وقرابة في المائة يومي الخميس والجمعة على التوالي، إلا أن الشركة ربما تراهن على أنها حققت أهم حملة تسويقية للموقع منذ إطلاقه، ناهيك عن ضمانها تعاطف الإعلام المناوئ لترمب مع موقف «تويتر»، باعتباره سجل نفسه شريكاً في معركتهم الكبرى ضد الرئيس الأميركي.
وعلى عكس وسائل الإعلام التقليدية، سواء الصحف أو القنوات التلفزيونية أو المواقع الإلكترونية الإخبارية، فإن شركة «تويتر» ليست مسؤولة، وفق القانون الأميركي، عن المحتوى الذي ينشر فيها، أما إذا كان المحتوى صادراً من سياسيين، فقانونياً وأخلاقياً يكون السياسي مسؤولاً عن محتواه، وليست المنصة، حيث يحمي القانون مواقع التواصل الاجتماعي من الدعاوى القضائية المحتملة الخاصة بالتعليقات ومقاطع الفيديو التي ينشرها المستخدمون، حتى في حالة ارتباطها بخطاب الكراهية أو الدعاية الإرهابية، وهو ما يؤكد أن «تويتر» اختارت أن تدخل في مواجهة نارية، ليست القواعد أحد منطلقاتها، بقدر ما هي خطة تسويقية محكمة تعتقد الشركة أنها ستعزز موقعها وتزيد مصداقيتها مهما كانت الآثار السلبية المتوقعة.
ما فات إدارة «تويتر»، وهي تدخل في هذه المعركة حامية الوطيس، أن اتخاذ مواقف سياسية مباشرة بمجرد التعليق عليها، فيه مخاطرة باستعداء عشرات الملايين من مشتركي الموقع، فبالتأكيد هناك مناصرون لترمب لن ترضيهم هذه الخصومة التي أبداها الموقع ضد الرئيس، أي أن الخصومة لم تعد ضد ترمب، أو إدارته فحسب، وإنما مع جمهور عريض من الطبيعي أن يتخذ موقفاً مشابهاً مع ترمب، فهل إدارة «تويتر» قادرة على المضي في هذه المعركة إلى النهاية، وهل تستطيع باستدارتها أمس والاعتراف بأنها أخطأت، في تصحيح أوضاعها مع مئات الملايين من المشتركين، أن تلملم أوضاعها وتنهي معركتها بعد أن حققت الغرض منها؟
غني عن القول إنه لا توجد وسيلة إعلام في العالم لا تتخذ موقفاً سياسياً في محتواها، وإن حرية التعبير تحدد بحسب توجهات وسائل الإعلام، الجديد في الأمر أن وسائل التواصل الاجتماعي أيضاً دخلت على خط اتخاذ مواقف سياسية، وهي التي تدعي أنها وجدت لتسمح بطرح كل الآراء مهما كانت، ثم نفاجأ بأنها لا تتخذ مواقف سياسية فحسب، كما فعلت «تويتر»، وإنما تحدد معايير التطرف بحسب توجهها السياسي، وإلا هل من عاقل يصدق أن ترمب يغذي التطرف، بينما لا يفعل ذلك علي خامنئي أو حسن روحاني أو محمد جواد ظريف؟!