مفارقة مؤلمة أن يُقتل أفريقي - أميركي خنقاً تحت ساق رجل أمن أبيض في مينيسوتا، الولاية الأميركية الأكثر «اسكندينافية» من حيث تركيبتها السكانية.
ومفارقة أيضاً، أن هذه الولاية ذات الغالبية الساحقة البيضاء تقع في أقصى شمال البلاد البارد على الحدود مع كندا، وليس في ولايات «حزام القطن» الجنوبية الحارة مناخياً وعرقياً والمحافظة إنجيلياً. ومعلوم أن أجداد الأفارقة الأميركيين جُلبوا أساساً كعبيد إلى الولايات الأميركية للعمل في مزارع القطن. وفي المقابل، كان أصحاب المزارع من المستوطنين الأوروبيين البيض، الذين بالكاد اقتنع أحفادهم بفضائل حملة «الحقوق المدنية» التي ألغت التمييز العنصري خلال عقد الستينات من القرن الماضي.
ثم هناك مفارقة ثالثة، هي أن رجل الأمن القاتل اسمه «شوفين». نعم... ديريك شوفين. وجاءت هذه الحادثة في فترة تصاعد الخطاب القومي، بل «الشوفيني» أحياناً، مع تسارع العد التنازلي للانتخابات الرئاسية والتشريعية في نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل.
واقع الحال، أن علاقة الشرطة مع جمهور المعترضين والناشطين في أي قضية مطلبية، وفي معظم بلاد العالم، ليست دائماً على ما يرام. ومع أن الأنظمة الديمقراطية تعتبر حق التظاهر وحرية التعبير من مقوّمات ممارسة السياسة الديمقراطية، قلما تخلو التظاهرات «الحماسية» من صدامات بين المتظاهرين ورجال الشرطة. ولعل خير شاهد، منظر شوارع العاصمة الفرنسية باريس قبل أن يهجرها «محجورو» جائحة «كوفيد - 19»... عندما تحوّلت إلى ساحات مواجهة بين الشرطة ومحتجي «السترات الصفراء».
في نهاية المطاف، يتصرّف الشرطي معظم الأحيان بهدف الاحتواء. ولكن في أحيان أخرى تغلب على سلوكيات الشرطي ذهنية الاستقواء بالسلاح في ظل نظام الإمرة... دفاعاً عن الأمن والنظام والملكية الخاصة.
في المقابل، باستثناء الزمر الفوضوية وجماعات المندسّين، لا ينزل المتظاهر المؤمن بقضية ما إلى الشوارع والساحات إلا اقتناعاً بمبدأ أو رفضاً لإجحاف أو درءاً لجوع. وهكذا، تغدو الصدامات ذات السقف المعقول حالات محسوبة يمكن استيعابها. لكن المشكلة تحصل عندما تكون الصورة العامة بعيدة عن هذه المعادلة الواقعية البريئة. إذ تخرج إلى العلن نوازع وكوامن مختلفة، وأحياناً متراكمة، عند الفريقين، وعندها يقع المحظور، وتفلت الأمور.
في الولايات المتحدة، تاريخ حافل بالتنوع والتناقض في بلد ضخم تعدّدي، اجتمعت فيه الأعراق والأديان والطوائف المهاجرة من كل أنحاء العالم. ونمت الدولة بالتدريج توسعاً باتجاه الغرب، وازداد التنوّع مع هذا التوسّع الذي تأمّن إما عبر الحروب أو صفقات الشراء.
الولايات الـ13 الأصلية في شرق البلاد، التي يُرمز إليها في العلم الأميركي بالخطوط الحمراء والبيضاء الـ13 ضمت المهاجرين من الجزر البريطانية (ولايات نيوإنغلاند وماريلاند وفيرجينيا وجورجيا وما أصبحتا نورث كارولينا وساوث كارولينا)، وألمانيا (ولايات الغرب الأوسط أو جنوب البحيرات الكبرى) وهولندا (نيويورك وبنسلفانيا).
في تلك الأثناء كانت فلوريدا إسبانية، بينما استقر الاسكندينافيون في نيويورك ولاحقاً في مينيسوتا. أما الفرنسيون فاستعمروا حوض الميسيسبي غرباً وكانت قاعدتهم الأبرز مدينة نيو أورليانز، المسماة تيمناً بمدينة أورليان الفرنسية. وما زالت أسماء المدن والقرى والعائلات تعكس جانباً كبيراً من هذا الإرث حتى اليوم.
غير أن ثراء البلاد وتزايد قوتها وارتفاع شأنها، إقليمياً ثم دولياً، جذب إليها المزيد من المهاجرين. وانسجم هؤلاء في بيئتهم الجديدة كل وفق إمكانياته وظروفه ومصالحه، وبجانب الهجرة، أسهم التقدم التقني في تغير النسيجين الديموغرافي والمصلحي.
ومع أن بدايات الحزبين الجمهوري والديمقراطي أخذت تظهر في مطلع القرن الـ19، فإن الانقسام الفكري يعود إلى بداية بناء الدولة الأميركية. ولئن كان الحزبان يشكلان راهناً الصراع بين المحافظين اليمينيين (الذين يمثلهم الحزب الجمهوري) والليبراليين الوسطيين واليساريين (الذين يمثلهم الحزب الديمقراطي) فإن هذا الصراع لا علاقة له بالصراع أو الخلاف الأصلي.
في البداية كان الخلاف يدور حول شكل الحكم، وهل يكون مركزياً كما ذهب الجمهوريون، أو لا مركزياً تتمتع فيه الولايات بهامش كبير من الصلاحيات كما دعا الديمقراطيون. وفي المحصلة، تبلورت سلطة فيدرالية متوازنة بين الجانبين وعلى مستويين، تنعكس فيها قوة الدولة المركزية، ولكن مع احتفاظ كل ولاية بحقوق وصلاحيات واسعة على أراضيها. وكانت الحرب الأهلية الأميركية (1861 - 1865) ذات صلة باختلال التوازن بين السلطتين مع أن الشرارة كانت قضية الرّق.
بعدها، مع نمو الصناعة والتجارة خلال القرن الـ20 وتزايد دور الولايات المتحدة، تبدلت المعطيات، فصار الحزب الجمهوري شيئاً فشيئاً منبر الاقتصاد الحر والارتباط بالكنيسة والقومية الأميركية (البيضاء غالباً) البراغماتية، بينما غدا الحزب الديمقراطي معقل الأقليات العرقية والدينية وحصن النقابات والسياسات الدولية الطوباوية.
حادثة مينيابوليس، كبرى مدن ولاية مينيسوتا، لها صلة مباشرة بالانقسام القديم - الجديد في البلاد. وهذا، مع ملاحظة أن هذا الانقسام تفاقم واشتدت حدته بعد جائحة «كوفيد - 19».
وللتذكير، انتخب الرئيس الجمهوري دونالد ترمب في خريف 2016، بأصوات غالبية بيضاء، على أساس خطاب قومي ويميني صريح. وقبل انتخابه، كما بعده، استفز قطاعات واسعة من الأقليات، وبخاصة، في موضوع الجدار مع المكسيك، والتضييق على الهجرة.
وعندما ضربت الجائحة فإنها تركّزت في مدن كبيرة، كنيويورك وديترويت، وبالذات، في أحيائها الفقيرة حيث الوجود الكثيف للأقليات الأفريقية واللاتينية. وبينما اهتم حكام الولايات من الديمقراطيين بالمرضى والضحايا والأطقم الصحية، كان الرئيس والجمهوريون مهتمين بإغاثة الاقتصاد وإنقاذ الشركات.
هنا برز من جديد تضارب الصلاحيات بين «المركز» (العاصمة الاتحادية واشنطن) والولايات، وبين رئيس أبيض ثري ويميني... وسكان مناطق فقيرة كثيرة منهم من الأقليات. وحقاً، استغل مروّجو التحامل العنصري ونظرية التفوق الأبيض، سياسات ترمب القومية والحمائية لإثبات حضورهم، في وجه تفاقم البطالة بفعل الأزمة الاقتصادية... التي رفعت أرقام البطالة في البلاد إلى ما فوق الـ40 مليون عاطل عن العمل.
في مينيابوليس، فجّر توقيف شرطي أخرق لرجل أسود، وبأسلوب فجّ ووسط توتر وانقسام، وفي سنة انتخابية، الغضب المكبوت حرائقَ وأعمالَ فوضى وعنف واسعة.
«الشوفينية» خطيرة... والفتنة أخطر. غير أن ما يقلق بعض المراقبين، اليوم، احتمال أن ترى جهات مغامرة مصلحة لها في استقطاب أعمق واستدراج أسوأ للفوضى خلال الأشهر القليلة السابقة لمطلع نوفمبر.