لم تكن الفوضى التي أحدثها مصرع "جورج فلويد" على يد شرطة "مينيابوليس" إلا كاشفة لحالة الاضطراب العميقة في بنية النظام السياسي والاجتماعي والأمني الأميركي. وليس صحيحاً أن "ترمب" هو من تسبب في الفوضى بل هي الفوضى التي تسببت في صعود ترمب كما يقول بعض الأميركيين.

وما كانت حادثة "فلويد" في مينيسوتا إلا وسيلة للتعبير عن عمق تشتت الروح الأميركية وانقسامها.

والمثير أن تصادفت حادثة "فلويد" مع دخول الولايات المتحدة صيفًا وبائيًا قاسياً واكتمال وفاة ما يزيد على 100 ألف أميركي جراء فيروس كورونا المستجد. وقبل وفاته تحت رجل ضابط شرطة مينيابوليس كان "فلويد" يواجه البطالة التي يواجهها معه نحو 40 مليون مواطن أميركي. ولكن قدره كان أن يواجه مصيره المريع نتيجة بلاغ موظف محل بقالة زعم أن "فلويد" حاول تمرير عملة مزورة بقيمة 20 دولارًا.

ومن هنا تأتي أهميّة عدم معقوليّة النظر إلى هذه الحادثة بعيداً عن هذا المناخ الأميركي العام وتشوّش مقومات العقد الاجتماعي الأميركي في العقود الأخيرة. ولعل هذا يفسر عودة ظهور السؤال الكبير بين النخب وفي بعض مراكز البحث والمجلات الأميركيّة الرصينة عن مدى متانة النظام السياسي الأميركي.

وحول هذا يشير استطلاع لخريجي كليّة هارفارد للأعمال إلى أن البيئة السياسيّة المضطربة في الولايات المتحدة قد تكون من بين أهم التهديدات التي تواجه هذه الدولة العظمى وتضعف قدرتها التنافسيّة مع نظيراتها.

كانت الولايات المتحدة تسوّق نموذجها كديموقراطيّة فيدراليّة تتحقق وتتجدد من خلال انتخابات تتنافس فيها المصالح المتنوعة للمواطنين (بحسب الدين، العرق، الخلفيات الثقافيّة..)، ويسندها ويوازن سياساتها جماعات الضغط بميولها المتنوعة، ثم تتحقق الحدود القصوى لمفهوم الحقوق والحريات من خلال جماعات الحقوقيين الذين يصونون المجتمع المدني في قضايا كثيرة عابرة للعرق والدين (مثل قضايا المرأة، البيئة، الشواذ، السلاح).

ويتطلع الأميركيون اليوم لمستقبل بلادهم السياسي والاقتصادي وآثار كورونا تخيم كابوساً على حياتهم بوصفها الكارثة الأعنف في تاريخهم الحديث. وهنا معدلات بطالة تتصاعد وعلى منصة السياسة رئيس جمهوري فقد نجاحاته الاقتصاديّة بسبب الجائحة ولم يعد في جعبته المزيد من الرصاص لإطلاقه على خصوم الداخل والخارج فقد قال كل شيء. وفي المقابل هنا حزب ديموقراطي لم يعد لديه بضائع كثيرة تقبل التسويق غير مهاجمة الرئيس ترمب علاوة على ما يعانيه الديموقراطيون من تفكك الرؤية وعدم وجود قيادات "كارزماتيّة" تعيد للحزب وهجه وتلم شتاته.

باختصار جاءت الحادثة والنخبة الأميركية -بحسب محللين أميركيين- هي الأكثر انقسامًا منذ الحرب الأهلية الأميركية (1861 - 1865).

قال ومضى:

الأروع من ممارسة الحريّة أن تجد شريفاً يصونها.