في نقاش عن بعد نظمه مركز دراسات المستقبل في بيروت لندوة حول العلاقات اللبنانية - العربية وخاصة الخليجية، وهو اهتمام لبناني ربما تشارك فيه شرائح خارج المهتمين في المركز، طُرحت مجموعة من الأسئلة بدأها: هل يعنينا لبنان؟ والجواب طبيعي جداً، نعم... ونعم كبيرة؛ فلبنان البلد العربي له في ضمير العرب والخليجيين مكانة لأسباب كثيرة، فهو البلد الذي شهد النهضة الثقافية العربية الحديثة، وما زال رغم تعثره مكاناً حراً للطباعة والنشر، كما تدفقت عليه أجيال لنهل العلم في مدارسه المتميزة وجامعاته، وشهدت فصول الدراسة في الجامعة الأميركية تكوين النخب الأولى من دول الخليج، بجانب ما يتحلى به طقس لبنان من طبيعة جذابة تقريباً في كل فصول السنة وقربه من منطقة الخليج جعله مكاناً آمناً ومحبباً لأجيال للسياحة والتجارة والتطبيب، فما أن يخرج لبنان من أي عثرة في نصف القرن الأخيرة ويبدأ في التعافي، حتى يتدفق عليه أهل الخليج سياحة وتعليماً واستثماراً، وقد قامت حكومات الخليج وبرغبة من شعوبها في أكثر الأحيان بنجدة لبنان، ولعل مرحلة ما بعد الحرب الأهلية اللبنانية شاهد على ذلك التواصل، بل إن المشهد بعد جائحة «كورونا» أيقظت تلك العلاقة العاطفية، فقد شهد أحد المتطوعين الكويتيين على «يوتيوب» وهو واحد من الذين ينظمون سفر غير الكويتيين إلى بلدانهم، يقول بكلمات واضحة وصادقة، إنه لم يقابل في عمله الصعب (تسهيل خروج الراغبين في المغادرة) كما المجموعة اللبنانية من بين عشرات الجنسيات الأخرى المغادرة، حيث قال «كانت تلك المجموعة من اللبنانيين أهدأ وأكثر تنظيماً وسلاسة في عملية تسهيل خروجهم» خرجوا بهدوء، ثم أردف أرجو أن أرى عودتهم بإذن الله قريباً، كان ذلك مؤثراً وصادقاً، كما أن الوجود اللبناني في منطقة الخليج كان ولا يزال مرحباً به بسبب خبراتهم وطريقة تعاملهم مع البيئة المحيطة، عدا بالطبع تلك القلة التي إما أرغمت أو اختارت التعامل مع مقاصد «حزب الله» اللبناني، وهي مقاصد غير خيرة (على أقل التعبيرات تحفظاً) تجاه منطقة الخليج وأهلها. لذلك؛ يتوجب التفرقة بين معظم اللبنانيين وبين الملتزمين بآيديولوجيا «حزب الله»، لا لأنها آيديولوجيا غير قابلة لفهم الظروف والمعطيات الدولية والإقليمية، أو أنها لا تتفهم احتياجات المواطنين اللبنانيين في القرن الواحد والعشرين، بل لأن المنطق يقول إنه لا يعقل أن يكون هناك حزب مسلح في دولة وتابع في الوقت نفسه لدولة أخرى! فتتحول تلك الدولة إلى ذراع ميليشياوية. علة الوضع الاقتصادي والسياسي المتدهور سريعاً إلى وضع اللادولة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى هو وجود «سلاحين في دولة واحدة». وجود هذا السلاح الآخر الذي تظاهر ضده اللبنانيون الأسبوع قبل الماضي هو حجر الزاوية في تدهور الأوضاع اللبنانية، فهو - أي ذلك السلاح - قراره الأول والأخير موجود في طهران، فلا يعنيه من قريب أو بعيد مصالح لبنان الوطن أو اللبنانيين كشعب، عدا أنه يورط لبنان في حروب عبثية في سوريا والعراق واليمن، وفي أي مكان تأمره طهران أن يفعل. يغامر بذلك بأرواح اللبنانيين في الغالب من طائفته وهي شريحة إما محتاجة إلى دخل ما بسبب تردي الأوضاع الاقتصادية، أو مرغمة في مكان ما وخائفة من التنمر عليها في مكان ثالث، أو شريحة صغيرة مستفيدة، فكل الطرق مسدودة أمامها غير طريق التطوع المرغم على حمل السلاح والموت في ساحات غريبة. طائفة من المسيحيين الذين يغطون لأسباب سياسية ومصلحية موقف «حزب الله»، في الغالب يتجاوزون مصالح اللبنانيين كافة، بل يتخطون كل تاريخ النضال المسيحي الطويل من أجل إنجاز الكيان اللبناني، فبعد خروجه من فم الأسد، إن صح التعبير، رموه طوعاً في فم الذئب لمصالح قصيرة الأمد، وتركوا الأمر يتدهور إلى أن وصل إلى طريق مسدود، فلم يبق أمام اللبناني العادي إلا خيار واحد، إما أن يموت بـ«كورونا» أو يموت من الجوع، فحتى باب الهجرة الذي استوعب حسب الإحصاءات اللبنانية الرسمية ثلاثة أرباع المليون مهاجر في العقد الأخير، لم يعد هذا الباب مفتوحاً كما كان حتى أشهر قليلة مضت. افتراض أن «حزب الله» هو المدافع عن حدود لبنان الجنوبية هو افتراض يستفيق منه اللبنانيون، لكن ببطء، وكلما تيقظوا من هزال الافتراض قربوا من الخلاص؛ لأن الواقع يقول إن قرارات أممية هي التي تحفظ للبنان حدوده، وإن «حزب الله» يعرف النتائج الكارثية التي يمكن أن تودي به وبكل مشروعه لو اشتبك بصورة واسعة في الجنوب، هو فقط تهويش إعلامي يقول به المخادعون ويصدقه السذج ويصد آخرين عن النقد أو يستخدمه البعض مشجباً للتقاعس عن الإفصاح بشجبه، بل الأكثر من ذلك أن «حزب الله حاجة إسرائيلية» بامتياز، فإسرائيل لا تتضرر منه قيد أنملة، وتستخدمه مشجب تهويش لها على الصعيد الدولي من أجل تصنيفه في معظم الدول أنه حزب إرهابي لإبعاد لبنان عن المجتمع الدولي، لكن الفائدة الأعظم لإسرائيل هي بقاء لبنان فقيراً ومقعداً عن النهوض التنموي في الوقت الذي تنمو فيه الصناعة والزراعة والسياحة في إسرائيل ذات الطبيعة الشبيهة بلبنان، فتظهر إسرائيل أنها «واحة الديمقراطية» ولبنان غاطس في الفساد! بالطبع لا يتشجع أحد اليوم لمد يد العون للبنان؛ لأنه في أكثر الأوقات وقوعاً تحت سيطرة «حزب الله»، وأي مساعدات سوف تصرف على أولويات الحزب لا أولويات الشعب، وهو المتحكم في الرئاسات الثلاث طوعاً أو كرهاً أو مصلحة بدرجات متفاوتة، قبل أشهر قليلة كان الحزب ومن معه يقولون، إن اللجوء إلى صندوق النقد الدولي مؤامرة، أما حكومته اليوم فهي تستجدي ذلك التمويل الذي لن يأتي إلا بشروط، في الوقت الذي تتكاثر الدول على تصنيف الحزب بأنه «منظمة إرهابية»، وهو المتحكم في المنافذ، وهو المشرف على تهريب كل ما يمكن تهريبه من أو إلى لبنان، «هو الدولة» تلك حقيقة يصدح بها كل فترة زعماء الحزب لمن يريد أن يسمع. تُرى من يعيد البسمة لوجه لبنان الجميل؟ لن يعيدها أحد غير وعي جديد في لبنان يقطع فيما بين الفئات والأحزاب والشرائح والمذاهب واستفاقة شعبية لإسقاط أسطورة لم تعد مقنعة لأي عاقل تسمى «المقاومة»، ويرفع اللبنانيون شعاراً واحداً لا غير، هو «لا سلاح خارج سلاح المؤسسة العسكرية الرسمية»، بهذا تبدأ هندسة قيامة لبنان، وقتها فقط سوف تعود من جديد البسمة إلى ذلك الوجه الصبوح الذي كان يسمى سويسرا الشرق، ويعاد لبنان إلى أهله.
أخر الكلام:
بالمعنى الاقتصادي، لبنان ليس فقيراً؛ فموارده كثيرة طبيعية وإنسانية، ما أفقره ارتهان بعضه إلى مقولات وشعارات أسطورية، بالتخلص منها يمكن وبسهولة تعافي لبنان!