محمد عبدالملك

تصاحبنا الموسيقى أين ما كنا، في المنزل أو في خارجه، في مشوار السيارة أو أثناء التريّض، أو في المجمعات التجارية. وعندما نقود السيارة ذاهبين أو قادمين من العمل، أو في أداء مهمات متعددة، نضغط الزر بتلقائية، حالما نُشغّل السيارة فتنطلق الموسيقى ويندفع الغناء، وفي الحال يهرب الملل وتسترخي أعصابنا ونستريح. وقيادة السيارات متعبة كما نعرف، وتحتاج إلى اليقظة والإنتباه الشديد، بين السيارات الكثيرة المندفعة من إتجاهات مختلفة، والمشاة الذين أمامنا وحولنا، لكن ما أن نفتح الموسيقى حتى يذهب هذا القلق والتوتر ويخفت الضجر ونشعر بالانشراح.

يحدث شيء مشابه عندما نمارس رياضة المشي، فالمشي على مدار ساعة مضجر إذا كنا منفردين، لكن الموسيقى تحل لنا هذه المشكلة، فهي تحت أمرك ورهن إشارتك في أي وقت تشاء، وفي أي مكان تكون، وصحبة الموسيقى الممتعة تجعلنا لا نشعر بالوقت، وتنتهي ساعة المشي وكأنها دقائق معدودة. سحر الموسيقى عرفه البشر من قديم الزمان فشغفوا بها مثلنا خصوصًا في الأفراح، أو عندما يريدون قضاء أوقاتًا ممتعة، أو في أثناء العمل، كان أسلافنا الغواصون الباحثون عن اللؤلؤ يستمعون إلى المواويل المغنّاة وهم يعملون على السفينة، ويبدأها المغني (النهام) بمصاحبة آلة الطبل والطوس، فالموسيقى وغناء النهام يبثان فيهم الحماس أثناء العمل الشاق الطويل، فينسون فراق الأهل، في رحلة الأربعة شهور وعشرة أيام الطويلة في عرض البحر الغدّار، بعيدًا عن اليابسة، وفِي ظروف خطرة وشاقة فهم يعملون من الفجر إلى المساء.

شعوبٌ أخرى استخدمت الموسيقى والغناء في مواسم الحصاد وفي الطقوس والمعابد، وفي الحروب لبث الحماس في الجنود. ولكل شعوب الأرض موسيقاها وأغانيها المفضلة، التي لا تحرمها من متعة الاستماع إلى موسيقى الشعوب الأخرى. ولا تقف اللغة حاجزًا عن الاستمتاع بالغناء فالموسيقى لغة كل العالم. من الأمور الجميلة في الموسيقى أنها متعددة، متنوعة، تختلف من شعبٍ إلى شعبٍ آخر، وعندنا نحن العرب، يتنوع الغناء حسب الأقاليم، فتتعدد بذلك متعتنا معها.

وأكدت بعض التجارب العلمية، أن للموسيقى تأثير كبير على النفس فهي تطلق الأفكار الإيجابية وتطرد الأفكار السلبية فنشعر بالتفاؤل والانشراح والإقبال على الحياة. هذا التأثير العجيب اللطيف للموسيقى دفع بعض الفلاسفة والحكماء والعلماء للبحث عن سر تأثيرها الكبير على النفس، واهتم الفيلسوف الإسلامي الفارابي بالموسيقى وأصدر مؤلفًا أسماه (كتاب الموسيقى الكبير)، بيّن فيه أثر الموسيقى في الروح ودورها في المعالجة والشفاء. وفي اليونان القديمة كان الحكيم اليوناني أبقراط الذي يلقب بأبي الطب، يستخدم الموسيقى لعلاج بعض مرضاه. وفي الحرب العالمية الثانية استُخدمت الموسيقى في مستشفيات الجنود المصابين الذين يعيشون لحظات حرجة لتشد أزرهم وتساعدهم على تخطي هذه الساعات الصعبة.

ويُذكر أن العرب أيضًا استخدموا الموسيقى في المشافي في عصر ازدهار الحضارة العربية. ويقول شيخ الأطباء العرب إبن سينا: (إن أهم أنواع المعالجة المؤثرة هي تعزيز الطاقة العقلية والروحية للمريض، ليقوى على مقاومة المرض بواسطة بيئة مليئة بالبهجة، بعزف أفضل أنواع الموسيقى، وإحاطته بمن يحب من الناس)، أما العالم الفيلسوف أبو بكر الرازي فيقول: (إن للموسيقى أثراً سحرياً يقي المرضى من تأجج أزماتهم النفسية).

وفي عصرنا الحديث اكتشف العلماء قدرة الموسيقى العلاجية في مرض الكآبة المنتشرة في المجتمعات الحديثة. واكتشف العلماء في العصر الحديث إن سبب الكآبة هو نقص في هرمون السيروتونين (هرمون الفرح) في العقل، ما يؤدي إلى شعور المريض بالحزن والقلق والإضطراب واليأس. وتحتوي أدوية الاكتئاب النفسي على هرمون السيروتونين الذي يخفف المرض. ووجد العلماء أيضًا، بعد تجارب على مرضى الكآبة أن الموسيقى تساعد على إفراز هرمون السيروتونين، وهذا سر الفرح والانتشاء الذي نشعر به عندما نستمع للموسيقى والغناء. وعندما نستمع إلى أغنية محددة مثلاً، خصوصًا إذا كانت من أغانينا المفضلة ننفعل بشدة، وتطفو لدينا المشاعر اللطيفة المفرحة.