لدي خمسة كتب باللغة العربية عن فلسفة الجمال، يزيد عدد صفحاتها على 1200 صفحة، لكن ما قرأته منها لا يزيد على خمسين صفحة. ولا أذكر شيئا من هذه الخمسين صفحة. وما تعرفت عليها إلا من خلال تأشيري بالقلم الرصاص على هذه الصفحات. فالقلم هو الشاهد على قراءتي لهذه الصفحات وليس ما تخزنه ذاكرتي المستسلمة للنسيان. ولم أكن أعرف ذلك لو لم تتواصل معي ابنتي التي تدرس في معهد الفنون في شيكاغو، طالبة مني أن نستعد للاجتماع من خلال زوم zoom لمناقشة ست صفحات كتبها الفنان التعبيري الفرنسي هنري ماتيس (1869 – 1954).

تخيلت أن المهمة لن تزيد على ساعة لتحضير قراءة الصفحات الست وأخرى لمناقشتها، لكن المفاجأة أو الصدمة كانت أني وجدت صعوبة في فهم مقاصد هنري ماتيس، وأدركت أني أمضيت ساعة على قراءة ثلاث صفحات من دون جدوى، فطلبت تأجيل الاجتماع. وللتوضيح للقارئ، وجدت أن ما كتبه ماتيس يدخل ضمن فلسفة الفن، والتي هي من ضمن فلسفة الجمال. وأني مرة أخرى أجد أن المصاعب التي واجهتني في فهم فلسفة الجمال تتكرر في صعوبة فهمي لفلسفة الفن التشكيلي كما قدمها هنري ماتيس. لكن ماذا أفعل؟ هل أعتذر عن المهمة وأخبر ابنتي التي تصغرني بحوالي نصف قرن أني لم أفهم؟ للأمانة أصبح عندي شغف لفهم هنري ماتيس ليس لنقاش ابنتي وإنما لرغبة نفسية دفينة. فها أنا الذي زرت متاحف في مدن عديدة، واقتنيت بعض اللوحات لفنانين مغمورين أعجز عن فهم ست صفحات لهنري ماتيس.

اكتشفت تدريجيا أسباب عجزي عن الفهم، والتي كان أهمها أني كنت أقرأ مباشرة من الشاشة، ولاحظت أن المهمة بدت أكثر سهولة عندما طبعت الصفحات الست، وأخذت أقرؤها وقلم الرصاص بيميني، وعقدنا الاجتماع أنا وابنتي لطيفة من خلال زوم. واتضح لي أننا كنا نتشارك في الفهم وعدم الفهم! أي أن النقاط الصعبة التي واجهتها كانت هي نفسها التي واجهتني، لكن بعد قراءتي الثالثة تمكنت من فهم كل ما أراده هنري ماتيس إلى حد كبير، فالفهم يأتي على مراحل، ومن يصبر يكافأ. هذا وبعد الجهد الذي بذلته أود أن أشارك القارئ بالقليل عن حياة هنري ماتيس والمدرسة التعبيرية التي شكلها في نهاية القرن التاسع عشر. كما أود أن أبرز مرة أخرى موضوعا يهمنا كعرب ومسلمين وهو: لماذا تخلفنا في الفنون التشكيلية؟ وهل له علاقة بتخلفنا في العلوم؟ وما دور رجال الدين في ذلك؟ وهل الإسلام فعلا ضد الفنون التشكيلية؟ هذا وسأبدأ بالحديث عن مفاجأة أخرى وجدتها في مكتبتي؟

لقد وجدت أني أحتفظ بالجزء الأول من كتاب المؤرخ الفني الألماني «الفن في القرن العشرين» لفيرنر هافتمان Werner Haftmaan(1912 – 1999. وعندما تصفحته، اكتشفت أني اشتريته عام 1975 من مدينة آن آربر في ولاية متشيغان من مكتبة أورلكس. وعرفت أن هذا المؤرخ هو من أهم مؤرخي الفن في القرن العشرين، والذي تقول عنه دورية للايبراري جورنال Library Journal «ان هذا الكتاب هو أهم تاريخ لفلسفة الفن والفلسفة في القرن العشرين». وان هذا الكتاب قد كلفني دولاراً وخمسة وأربعين سنتا، بمعنى أن أهم كتاب لتاريخ الفن في القرن العشرين (الجزء الأول) بأقل من نصف دينار! هذه هي مكافأة العيش في مدن جامعية مهمة وكبيرة. عندما يغير الأستاذ الكتاب المقرر، تتخلص منها المكتبات بأرخص الأثمان. وعندما تصفحت الكتاب وجدت مفاجأة أخرى، وهي أن هناك حوالي سبع صفحات عن هنري ماتيس والمدرسة التعبيرية في الفن كنت قد قرأتها وكأني أستعد للامتحان. كيف حدث هذا؟ ومن الواضح أني لم أقرأها عندما كنت طالبا، فليس هناك أي سبب أن أقرأها في ذلك الوقت المبكر من حياتي. بدأت أتقصى وأفكر ربما كما يفكر أو يتقمص الطبيب سبب العدوى لدى مريض بالكورونا. ولحسن الحظ كانت النتائج ايجابية، والتي ترجع إلى عام 1995 عندما كنت أعمل ضمن فريق في شركة نقل وتجارة المواشي، الذي اشترى باخرة مستعملة، وقامت الشركة بتحويلها من ناقلة سيارات إلى ناقلة أغنام.

فبعد شراء الباخرة المستعملة من اليابان، سافرت ضمن فريق يضم مدير الأسطول إلى مدينة هامبورغ في ألمانيا مرات عديدة، ومرة لزيارة حوض بناء السفن في هامبورغ نفسها، أو مرات عديدة للقاء الاستشاري لتحويل الباخرة المستعملة إلى ناقلة أغنام، ثم السفر بالسيارة إلى مدينة بابونبرغ الصغيرة، التي أهم ما فيها هو حوض ماير لبناء السفن الذين رست عليهم مناقصة التحويل من ناقلة سيارات إلى ناقلة أغنام. ولكن ما علاقة ذلك بالفن وبهنري ماتيس؟