يمثل “قانون قيصر لحماية المدنيين في سوريا” والذي أصبح قيد التنفيذ في السابع عشر من الشهر الجاري نقطة مفصلية في التاريخ الطويل للعقوبات الأميركية ضد النظام السوري والذي تعود بداياته لعام 1979 حين صنّفت واشنطن سوريا كدولة داعمة وراعية للإرهاب.

وعلى مدى أكثر من 40 سنة تأرجحت العلاقات بين واشنطن ودمشق بين قطبي الصدام العسكري المباشر وغير المباشر وبين التعاون الدبلوماسي في سياق المفاوضات مع إسرائيل. وبين هذين القطبين استمر التنافس بين البلدين للتأثير على مستقبل لبنان والأردن والعراق والفلسطينيين.

الضغوط والعقوبات الأميركية ضد سوريا، مثل “قانون محاسبة سوريا واستعادة السيادة اللبنانية” الذي وقعه الرئيس جورج بوش الابن في 2004، ساهم في إخراج القوات السورية من لبنان. وفي الوقت ذاته فتحت سوريا حدودها الصحراوية مع العراق لعبور الجهاديين والمتطرفين الإسلاميين لمحاربة القوات الأميركية في العراق.

سياسة الرئيس باراك أوباما الأولية تجاه سوريا كانت إيجابية. أوباما كان يريد العمل في ولايته الاولى على تحقيق سلام بين الفلسطينيين وإسرائيل، ولذلك عين المبعوث جورج ميتشل للقيام بهذه المهمة في اليوم الثاني بعد وصوله إلى البيت الأبيض. جورج ميتشل عين الدبلوماسي، المتقاعد آنذاك فريدريك هوف للسعي إلى إحياء المفاوضات السورية ـ الإسرائيلية والاستفادة من جهود الوساطة التي كان يقوم بها الرئيس التركي رجب طيب إردوغان بين رئيس وزراء إسرائيل آنذاك إيهود أولمرت ورئيس النظام السوري بشار الأسد، والتي حققت، باعتراف الأطراف المعنية تقدما ملموسا.

أذكر أن السفير فريد هوف أطلعني على مضمون التقدم الذي أحرزه الفريق الدبلوماسي التركي حول بعض النقاط الجوهرية التي كانت عالقة بين السوريين والإسرائيليين، وأذكر أنه أثنى على مهنية الوسطاء الأتراك. وأخبرني السفير هوف أنه حين ناقش مع بشار الأسد توقيت بدء الوساطة الأميركية (انطلاقا من تسليم الجميع بأن الحل النهائي وما يتطلبه من ضمانات أميركية لن يتم إلا بواسطة واشنطن) طلب منه الأسد التريث لإعطاء إردوغان بعض الوقت لتحقيق تقدم إضافي، على أن يتبع ذلك ترحيب أميركي وإسرائيلي وسوري بالدور التركي التاريخي، قبل تسليم واشنطن مسؤولية قطع الشوط الاخير من المفاوضات باتجاه اتفاقية السلام.

كل هذا تغير في مارس 2011 حين اندلعت الانتفاضة السورية ضد نظام الأسد. اتسمت سياسة أوباما تجاه سوريا خلال الانتفاضة بالتردد والتخبط وأنصاف الحلول والتناقضات والوعود والالتزامات التي لم تنفذ. وإذا كان هناك موقف ثابت لأوباما تجاه الانتفاضة السورية، فهو الموقف الذي عبر عنه في صيف 2013 حين قال إنه لن يتدخل في “حرب أهلية لأطراف أخرى”.

وفي وجه التصعيد العسكري لنظام الأسد وحلفائه الإيرانيين والروس والذي شمل استخدام جميع الأسلحة في ترسانته من الطائرات الحربية والمدفعية الثقيلة وصواريخ سكود والأسلحة الكيماوية وسياسة التجويع والتركيع، لجأ أوباما إلى محاربة النظام السوري بالعقوبات والقرارات التنفيذية لمعاقبة المسؤولين السوريين.

ويجب أن نذكر بأن الكونغرس، الذي كان ولا يزال، يضم قيادات معروفة بعدائها للنظام السوري بدأ خلال ولاية اوباما التحضير لإقرار ما عرف لاحقا باسم قانون قيصر، بعد أن مثل المصور العسكري الذي أعطي اسم “قيصر” والذي هرب من سوريا ومعه خمسين ألف صورة لضحايا التعذيب في السجون السورية، أمام لجان الكونغرس.

صحيح أن قانون قيصر بصيغته النهائية لا يدعو مباشرة إلى الإطاحة بنظام الأسد، ولكنه يضع شروطا صعبة للغاية لإلغاء العقوبات، إذا جرى تنفيذها كلها أو حتى بعضها فإنها ستؤدي إلى سقوط نظام الأسد. وهذا ما أشار إليه بيان الخارجية الأميركية حول القانون “حان الوقت لتنتهي حرب الأسد الوحشية والتي لا طائل لها”، وأضاف البيان أن “نظام الأسد ومن يدعمونه يقفون أمام خيار بسيط اليوم، ألا وهو اتخاذ خطوات لا رجعة فيها باتجاه حل سياسي للصراع السوري يتسق مع قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254 أو مواجهة لوائح جديدة من العقوبات”.

أبرز ما في قانون قيصر هو شموليته، ونعم، غموضه المقصود. ولم يكن من الواضح يوم الأربعاء الماضي حين أعلنت الخارجية الأميركية عن فرض العقوبات ضد بشار الأسد وزوجته أسماء وشقيقه ماهر، وشقيقته بشرى ما إذا كان ذلك بموجب قانون قيصر أو بموجب القرارات التنفيذية العديدة التي اتخذت بحق سوريا والمسؤولين السوريين خلال العقدين الماضيين.

شمولية قانون قيصر، مماثلة لشمولية العقوبات التي أعاد الرئيس دونالد ترامب فرضها على إيران في 2018 وخاصة ما يسمى Secondary sanctions أي العقوبات التي تفرض على أي طرف خارجي: دولة، أو شركة أو أي كيان أو أفراد يساهمون في الهجمات العسكرية السورية (والإيرانية والروسية) أو مساعدة النظام السوري في قطاع الطاقة (النفط والغاز الطبيعي) أو في الهندسة أو الإعمار والبناء. وهذا يعني عمليا أن سيف العقوبات الأميركية سوف يبقى مسلطا فوق رأس أي طرف يمكن أن يفكر بالمشاركة في أي عملية تهدف إلى إعادة إعمار سوريا أو تمويل هذه العملية حتى في قطاعات لا تمت مباشرة إلى المجهود العسكري، وأن تساهم فيه بشكل غير مباشر مثل البنية التحتية أو الصناعات المحلية، سيبقى مسلطا إلى أن يتحقق الحل السياسي.

وهناك شركات لبنانية، وأخرى في بعض دول الخليج العربية، إضافة إلى شركات تابعة لدول أخرى مثل روسيا والصين، كانت تحضر، في أعقاب بسط النظام لسيطرته على معظم الأراضي السورية في السنتين الماضيتين، للاستفادة من عملية إعادة إعمار سوريا، خاصة وأنه كانت هناك توقعات ـ غير واقعية على الإطلاق ـ بأن إعادة إعمار سوريا باتت وشيكة.

غموض قانون قيصر سوف يدفع بأي شركة تريد العمل في سوريا في أي قطاع إلى أن تفكر مليا، وأن تتحرى مسبقا من أن سيف العقوبات لن يطالها، ولكن غموض القانون بحد ذاته سوف يقنع جهات خارجية بأن لا تتورط في أعمال في سوريا تجنبا لأي مجازفات أو وجود أكثر من اجتهاد في تفسير القانون.

المسؤولون الأميركيون لا يقولون مسبقا من سيتعرض لسيف العقوبات الأميركي. كل ما يقولونه هو أن أي جهة خارجية بما فيها تلك العاملة أو التابعة أو المسجلة في أي دولة حليفة وصديقة للولايات المتحدة وتحديدا دول أوروبا والخليج العربي التي تساهم في دعم النظام السوري بشكل مباشر أو غير مباشر عسكريا، أو في القطاعات الأخرى سوف يطالها قانون قيصر.

وضع قانون قيصر حيز التنفيذ تزامن مع أسوأ أزمة اقتصادية ـ مالية تشهدها سوريا منذ بدء الانتفاضة. في الأشهر الماضية فقدت الليرة السورية نصف قيمتها. انهيار الليرة السورية مرتبط بانهيار الليرة اللبنانية، كما أن أزمة المصارف اللبنانية والقيود المفروضة على سحب الودائع بالدولار، أضر بالاقتصاد السوري. السوريون الذين أودعوا أموالهم في مصارف لبنانية يخضعون لشروط هذه المصارف.

اللافت أن النظام السوري، وحلفاءه في لبنان مثل “حزب الله”يدعون منذ فترة وحتى قبل وضع قانون قيصر قيد التنفيذ أن هذا القانون مسؤول عن الأزمة المالية الخانقة في سوريا ولبنان. كما أن ادعاء قوى لبنانية أن قانون قيصر موجه ضد لبنان هو تضليل سافر ولا علاقة له بالواقع.

هناك حرب شرسة مستعرة في سوريا منذ حوالي 10 سنوات اقتلعت وهجرت حوالي 11 مليون سوري ودمرت مدن وبلدات بكاملها، وهناك أزمة مالية قديمة في لبنان تعود إلى سياسات مالية متهورة وشبه انتحارية وممارسات مشبوهة بين بعض أقطاب السلطة في لبنان والمصرف المركزي أدت إلى انهيار الليرة اللبنانية وصرف جزء هام من احتياط لبنان من العملة الصعبة وتحديدا الدولار، بما في ذلك تهريب عملة الدولار إلى سوريا.

الأميركيون يفترضون أن قانون قيصر سوف يرغم أي طرف لبناني يساهم في تهريب النفط (الفيول) إلى سوريا أن يفكر أكثر من مرة بعد أن اقترب منه سيف قيصر. أيضا أي طرف يساهم في تهريب الأسلحة من وإلى سوريا سوف يعرض نفسه للعقوبات. وهذا يعني أنه إذا أرادت الحكومة اللبنانية أن تبقى خارج مدى قانون قيصر عليها أن تبدأ بضبط حدودها “الفلتانة” مع سوريا.

طبعا مصلحة النظام الدموي في دمشق، والحكومة اللبنانية التي يهيمن عليها “حزب الله” وحلفاءه الصغار، تقضي بأن يدّعوا أن الولايات المتحدة هي المسؤولة عن فسادهم وهدرهم للمال العام. كما تزامن قانون قيصر مع محاولات لبنان للحصول على قروض مشروطة من صندوق النقد الدولي. وإذا لم يتعامل المسؤولون بجدية مع قانون قيصر، لجهة وقف تهريب النفط والدولار إلى سوريا، فإن فرصهم، الضئيلة أصلا، بالاقتراض من صندوق النقد الدولي سوف تتضاءل أكثر.

ويعتقد أن الإصلاحات الاقتصادية والمالية التي يشترطها صندوق النقد، من تعويم الليرة إلى تعزيز استقلالية القضاء وإصلاح قطاع الكهرباء بشكل جذري واعتماد الشفافية في المناقصات العمومية ومواجهة استشراء الفساد بشكل مباشر، تعني أن الطبقة السياسية اللبنانية المستفيدة من الوضع الراهن ستواجه معضلة صعبة للغاية لأن تطبيق هذه الإصلاحات سوف يزعزع من سيطرتها.

وهناك ناحية سياسية أخرى لا يريد المسؤولون اللبنانيون الاعتراف بها، وهي أن “أصدقاء لبنان” في الولايات المتحدة وأوروبا ودول الخليج العربية، يتضاءلون مع مرور كل يوم، بسبب إخفاق الحكومات المتعاقبة على السلطة منذ نهاية الحرب الأهلية في معالجة مشاكل لبنان البنيوية وانهيار نوعية الخدمات الحيوية، واستشراء الفساد واحتكار السلطة السياسية من قبل طبقة منغلقة ومفترسة.

وهناك سبب أساسي آخر لاستياء “المجتمع الدولي” من لبنان وهو هيمنة “حزب الله” على القرار السياسي في لبنان وتورطه العسكري في نزاعات المنطقة. وهذا يفسر استياء شخصيات سياسية أميركية في الكونغرس من “حزب الله” وأنصاره في البرلمان اللبناني وخارجه، وهذا الاستياء موجود أيضا في دول أوروبية وخليجية.

اللبنانيون الذين يتوقعون الترياق من مجتمع دولي هو في خضم جائحة كورونا التي جلبت معها أزمة اقتصادية عالمية، يضللون أنفسهم. اللبنانيون الذين يدعون أن لديهم خيار التوجه إلى “الشرق”، أي إلى الصين، أيضا يضللون أنفسهم وربما عليهم مراجعة سجل الصين “الاستثماري” في دول عديدة من سريلانكا وباكستان في الشرق إلى بعض الدول الأفريقية ليطلعوا على كيفية سيطرة الصين على مقدرات ومنشآت وموارد هذه الدول، ما دفع بالعديد من المحللين للكتابة عن “استعمار” صيني حديث أسوأ في بعض نواحيه من الاستعمار التقليدي.

الصين تغرق الأسواق التي تنشط وتستثمر فيها ببضاعتها ذات النوعية المتدنية، كما ترغم الدول التي تتقاعس عن تسديد ديونها على بيعها مرافقها الأساسية مثل المرافئ وغيرها. النفوذ الاقتصادي الصيني الخانق أصبح قضية خلافية داخلية في دول مختلفة مثل زامبيا وسريلانكا وماليزيا.

خلاص لبنان لن يكون بالتوجه شرقا، بل بالتوجه داخليا ورفض ربط مستقبل لبنان بمستقبل “حزب الله”، ومحاولة إجراء إصلاحات جدية بالتعاون مع صندوق النقد الدولي، وهو تعاون سوف يكون مؤلما في بدايته، ولكنه وجع لا مفر منه. لبنان، بكل بساطة وفظاظة بحاجة إلى عملية جراحية قيصرية إذا كان له أي حظ بولادة جديدة.