ليبيا اليوم، وبعد خطاب الرئيس السيسى الأخير، أصبحت -بالنسبة للرئيس أردوغان- أصعب محطات وأقسى عقبات مشروع الرئيس التركى لإعادة الخلافة العثمانية وإعلانها 2023.

خياران «أحلاهما مر» أمام «أردوغان» الآن بعدما أعلن الرئيس المصرى أن خط «سرت - الجفرة» هو خط أحمر، وأن تجاوزه يعطى لمصر شرعية فى التدخل العسكرى!

الخيار الأول أن يأخذ الرئيس التركى تهديد الرئيس السيسى بجدية وحذر، ويبقى ملتزماً بقواعد اللعبة مؤقتاً داخل هذا الخط المحدد ولا يتعداه.

الخيار الثانى أن تتغلب عليه -كعادته- مشاعر «العظمة»، وتسيطر عليه أحلام إعادة الخلافة والتشبه بمثله الأعلى السلطان سليمان الأول (1520 إلى 1566) ويخترق الخط وتتحول مغامرته العسكرية إلى مواجهة شاملة مع جيش مصر وجميع حلفاء هذا الجيش من قبائل ليبية، وجيش حفتر، والحلفاء الإقليميين والدوليين.

النفط، الغاز، الخلافة، دعم الإخوان، تنفيذ المشروع القطرى، إطلالة أخرى على المتوسط؛ كلها «مغريات سياسية» و«جوائز استراتيجية» تسيل لعاب «أردوغان».

فى الجانب الآخر تجاوز خط سرت - الجفرة يعنى مواجهة دموية، وتحويل ليبيا من أرض قتال إلى أرض قتل له ولحلفائه، وجر العالم والمنطقة إلى «حرب عالمية صغيرة» تدخل فيها مصالح شركات: «توتال» الفرنسية، وإينى الإيطالية، وإكسون موبيل الأمريكية، وروزنفت الروسية، وشركات إعمار مصرية وإماراتية ويابانية وصينية تسعى للحصول على قطعة من كعكة إعادة إعمار ليبيا.

والذى يتخيل المحادثة الهاتفية التى تمت مساء إعلان الرئيس السيسى على الجهة الغربية مسألة خط سرت - الجفرة، بين الأمير تميم والرئيس أردوغان يمكن أن يتوقع اختلافاً فى الحسابات الشخصية لكل من الأمير والرئيس.

كلاهما «تميم وأردوغان» يريد مشروع الخلافة ويريد دعم الإخوان وهزيمة حفتر وحلفائه، وإزعاج مصر وتهديد حدودها، ولكن فاتورة وكلفة الأمر على كل واحد منهما تختلف تماماً.

الخلاف يعود إلى تكلفة القرار داخلياً فى مؤسسات كل من قطر وتركيا.

فى قطر يحكم تيار واحد منفرد داخل الأسرة الحاكمة يديره ثالوث «تميم والحمدين». فى قطر لا معارضة رسمية أو أحزاب، أو سماح برؤى مناقضة.

سلطة الحاكم نظرياً وعملياً شبه مطلقة.

فى تركيا الوضع شديد الخلاف؛ لأن تركيا عضو فى حلف الأطلنطى، ذات نظام جمهورى رئاسى تأسس عام 1923.

فى تركيا معارضة قوية ومؤثرة، لها وجود قوى فى البرلمان، أظهرت قواها فى الانتخابات البلدية الأخيرة التى أنقذت حزب «أردوغان» ومرشحيه فى كل من «أنقرة وإسطنبول وأزمير» وهى نذير خطر للغاية.

فى تركيا الآن معاناة ارتفاع الأسعار، وفقدان العملة الوطنية لـ80٪ من قيمتها مقابل الدولار، وتعدى سعر الدولار لحاجز السبعة ليرات، وهو أمر يجعل الحياة شديدة الصعوبة على الطبقات الفقيرة والمتوسطة.

فى تركيا الآن تذمر وشكوى من سوء إدارة الحكومة والحزب الحاكم لملف فيروس كورونا.

وفى تركيا هناك انشقاق عظيم فى القوى الفاعلة فى حزب «أردوغان» بعد خروج مفكره الأول داود أوغلو، ووزير الخارجية السابق باباجان، والرئيس السابق عبدالله جول.

فى تركيا الآن قلق الأكراد، الذين يمثلون نحو أكثر من 22 مليون نسمة من سكان تركيا، من العمليات العسكرية فى شمال شرق العراق وسوريا ضد أكراد البلدين، ويمثل الأكراد كتلة تصويتية مهمة فى تركيا فى جميع الانتخابات.

ورغم صعوبة كل ما سبق والآثار السلبية على واقع ومستقبل «أردوغان» السياسى، فإن هاجسه الأول، وهو يتخذ قرارات مغامراته العسكرية، هو موقف مؤسسة الجيش التركى.

العلاقة بين «أردوغان» والجيش علاقة عكسية ومخالفة تماماً لعلاقة مصطفى كمال أتاتورك، صاحب مشروع تركيا العلمانية الحديثة.

«أتاتورك» ضرب مشروع الخلافة الذى استمر 400 عام، وأعطى اليد العليا لمؤسسة الجيش، بينما يحاول «أردوغان» الآن إنهاء هذا الدور المنصوص عليه فى الدستور، ويعطيه لحزبه ومشروع الخلافة، وتيار الإسلام السياسى.

انتهز الرجل محاولة الانقلاب العسكرى عام 2016، الذى أعلن زعماؤه تغيير النظام وإنشاء «مجلس للسلم» يحكم البلاد من كبار الضباط.

ولا ينسى «أردوغان» أن قادة الانقلاب كانوا من قادة المؤسسة العسكرية، أهمهم قادة الجيشين الأول والثانى وبعض قادة المجلس العسكرى الأعلى.

ونتج عن هذه المحاولة قيام «أردوغان»، فى الأيام الأولى التالية، باعتقال 8775 ضابطاً وجندياً، وتم بعدها إعفاء ما يتجاوز الـ25 ألفاً منهم من الخدمة العسكرية.

هناك توتر سياسى مكتوم بين «أردوغان» ومؤسسة الجيش حتى يكاد يصل إلى صراع وجودى لا بد أن ينتهى فى مرحلة حسم صريحة واضحة لمنتصر كامل ومهزوم صريح.

من هنا يمكن فهم طبيعة العلاقة المتوترة للغاية بين «أردوغان» والمؤسسة العسكرية بشكل مستمر.

هنا يصبح على «أردوغان»، وهو يحسم بشكل واضح قراره بالبقاء داخل خط سرت - الجفرة أو تجاوزه، أن يحسب حسابات محلية داخلية كثيرة أهمها وقوف رئاسة الأركان التركية معه.

هنا سوف يسأل الرجل نفسه ماذا لو تجاوز الخط وبدأت جثث ضباطه وجنوده تعود فى أكفان إلى الوطن مثلما حدث فى شمال شرق سوريا سابقاً، وخسارة 22 من جيشه فى العراق منذ أيام؟

تلك كانت خسائره هناك، فكيف يمكن أن تكون إذا ما واجه جيش مصر الذى يعد أحد أهم عشرة جيوش فى العالم؟

يداعب ذهن «أردوغان» خيلاء الانتصار وغطرسة القوة، وخيلاء قهر كل القوى والجيوش والأسلحة التى تحاربه على كل الجبهات من سوريا إلى العراق، ومن طرابلس إلى شرق البحر المتوسط، ومن ليبيا طرابلس إلى ليبيا ما بعد خط سرت - الجفرة، من هنا يمكن فهم قلق كبار المخططين الاستراتيجيين الأتراك للمغامرات غير المحسوبة التى يدفع إليها «أردوغان» أبناء جيشه!

هذا كله يجعله الرجل الأقوى أمام شعبه ومؤسسته الداخلية والقوى الإقليمية والدولية، ولكن بشرط واحد أن ينتصر ويتغلب، وهذا بالحسابات مستحيل مستحيل مستحيل!

«غداً نكمل الدراسة»