لا نعرف لماذا تأخر الرئيس امين الجميل في تقديم سرديته عن الحرب التي يضعها بين مزدوجين عندما يسميها “أهلية”. لا شك في ان “الأهلي” كان جزءاً منها، بكل عناصره الثقافية والطائفية والمذهبية، لكنك تذهل عندما تكتشف أنه العنصر الأخير، أو الأقل أهمية في صراع تشاركت فيه جميع الأمم، كل لغايتها.

في أحد الفصول يشير صاحب المذكرات الى سنواته الست في القصر الجمهوري، بأنها “الولاية الشاقة”. وأعتقد أنها اكثر توصيفاً من “الرئاسة المقاومة”. فالبانوراما الموضوعة أمامك، هي صورة رجل في مشقة كبرى، وحيد، محاصر بالأعداء والخصوم، بدءاً “بأهله” أو “جماعته” مروراً بسائر الخصوم الطبيعيين: الفلسطينيين، السوريين، الحركة الوطنية بكل فروعها. القسم المنشق من الجيش، قسم من الدول العربية، لغة معمر القذافي، والاجتياح الاسرائيلي.

لا يمكن وصف كل ذلك بحسن الحظ. لقد حمله قدره الى الرئاسة في لحظة درامية رهيبة من تلك اللحظات المأسوية في تاريخ العائلة. اغتيال بشير الجميل كان بداية جديدة للحرب، لا نهاية لها. وعكس شقيقه الأصغر، هو كان خياره عربياً. وكانت لديه ثقة بأن العرب، على تفاوت نظرتهم الى لبنان، من التعالي عليه واحتقاره على طريقة عبد الحليم خدام، الى اعتباره صليبياً مثل صاحب ليبيا، الى التحكم به مثل ياسر عرفات، هم خياره الوحيد، وليس الأفضل.

الخيار العربي كان قبل الرئاسة، وليس عندما شاهد عن كثب امامه فرائضها وأحكامها. لذلك، عندما كان نائب المتن يقاتل في تل الزعتر، ذهب مرتين الى الفاكهاني للقاء ياسر عرفات: المخيَّم على وشك السقوط ولا نريد مذبحة لا تمحى من تاريخ المسيحيين، أو من ذاكرة الفلسطينيين. ساعدنا على إجلاء المدنيين بأقل خسائر بشرية ممكنة. لم ينقطع الحوار مع القيادات الفلسطينية، وسوف يصل الى مستوى الصداقة مع الرجل الثاني في فتح، صلاح خلف، أبو أياد.

في الكويت، بعد خروج الفلسطينيين من لبنان، زارنا ابو أياد في جريدة “الأنباء”. وكان جميع الزملاء يحتفون به ويحاورونه. وخرجنا، هو وأنا، الى سطح الجريدة لتدخين سيجارة. وتطلعت في الرجل القوي الحزين، وقلت له، بقدر ما أوتيت من صدق ومحبة وشجاعة: ألم يكن من الأفضل لنا جميعاً لو بقينا في بيروت؟ كان كبيراً في الجواب.

كنت أنقل إلى الرئيس الجميل من خلال مقابلاتي، تقدير المسؤولين والسياسيين العرب لخياراته في الوقت الذي كانت لبعض القوى المسيحية خيارات أخرى، مرغمة ولكن قصيرة النظر وغير مقبولة في أي حال.

تقرأ سردية الشيخ امين مثل رواية محزنة لا فرح فيها. 13 قمّة مع الرئيس حافظ الأسد، بكامل الأبهة والفخامة والسجاد الأحمر والفرق الموسيقية، وكلاهما لا يعطي الآخر شيئاً مما يريده حقاً. وفي أي حال، لم يكن الرئيس السوري يستأذن. فعندما يشاء كان يرسل آلاف الجنود الى لبنان لحماية “خاصرة سوريا”. وعبد الحليم خدام كان يناقش في عدد النواب (الرقم المفضل 146)، وفي اسم رئيس اركان الجيش، وفي الوضع الاقتصادي.

الساحر رشيد كرامي كان من تولّى الرد على الأخ أبو جمال: 146 نائباً عدد سوف يُهبط من مستوى النيابة. كان برلماننا أفضل يوم كان العدد 66، وكان أفضل أكثر، يوم كان 44. دائماً يبرز في سرد “الرئاسة المقاومة” رجل دولة من طراز عالٍ، يدعى رشيد كرامي. خصم راق وشريك شديد الرقي. يحارب في السياسة ويؤازر في شؤون الدولة. لكن مثل معظم كبار رجال الدولة، سوف يُغتال رشيد كرامي، مفصلاً من مفاصل الموت في حياة الدولة، ما بين رياض الصلح ورفيق الحريري.

يتعرض أمين الجميل في هذا السرد، لمحاولة الاغتيال، وللإهانة، وللتهم، وللإنشقاقات داخل حكومته، ولحروب “القوات” عليه، وللضغوط الاميركية في اتفاق 17 ايار، وللإستفزاز ولتهديدات عائلته واطفاله، ويظل متمسكاً بخيار واحد: الحوار. وبديله واحد أيضاً: العنف.

الرئاسة ليست بيته، والقصر الجمهوري ليس بيت أبيه، والدستور ليس بيت جده. لذلك، لن يقطع الحوار مع أحد، ولن يعادي أحداً، ولن يغلق باب بعبدا في وجه أحد، ويضمن الدستور لرئيس الجمهورية صلاحيات كثيرة، ليس بينها ان يكون طرفاً في شيء، أو أن “يسنكف” أحداً أو يستقبل رئيس الوزراء مثل تلميذ عاق يجب قصاصه.

لكي تعرف ماذا عانى أمين الجميل، لا بد أن تقرأ روايته للأحداث. ومفاجآتها من الصفحة الأولى الى الاخيرة القبول فقط بالحوار كصيغة للعمل الوطني. لذلك، جاء اول رد على 25 حزيران في بعبدا منه. دعك من ان الرئيس ميشال عون قال عنه “نحنا منعرفوا منيح لأمين الجميل”. أو أنه ليس على لائحة المدعوين الى القصر في دفتر التشريفات.

كل واحد منا سوف يقرأ مذكرات أمين الجميل على طريقته، وحسب مشاعره ومواقفه. أنا، علتي أنني اقرأ التاريخ في خوف. والتاريخ اللبناني مؤلم وعقيم. أنت تقرأ في النهاية مرحلة من تاريخ بلدك من خلال رجل فقد في سياسة الاغتيال، ابنه وشقيقه. وكان يعلّق على صدره في الماضي زر الارزة فأصبح يعلق صورة ابنه بيار. إذا كان الجميع يعرفون لماذا قتل بشير الجميل، فمن يعرف لماذا قتل بيار؟ هذا كثير حتى على دراميات العائلة. وكثير حتى على امين الجميل الذي قال له كميل شمعون يوم اصبح رئيساً: نصيحة واحدة: أعصاب قوية، والباقي سهل.

الولاية الشاقة بدأت في اليوم الأول، وانتهت في اليوم الأخير منها. حاول الرئيس المغادر اقناع شارل حلو برئاسة حكومة موقتة فاعتذر بداعي مرض زوجته، واقترح عليه بيار حلو. وحاول بيار حلو تشكيل حكومة فاخفق وأعتذر. ولم يبق امامه سوى حكومة من المجلس العسكري الذي يمثل جميع الطوائف. لكن الجنرال ميشال عون لم يتوقف عند اعتذار المسلمين، فكانت الحكومة الأولى والأخيرة من لون واحد.

خرج أمين الجميل من القصر فوجد ان “المسيحيين” لا يريدون له البقاء بينهم. سافر الى باريس، وعندما حاول العودة اكتشف ان “الميدل ايست” ترفض سفره بطائراتها. سوف يبذل محاولتين أخريين، رئيس الجمهورية السابق، العودة، متجاهلاً تعميم ايلي حبيقة، الذي أصبح تقدير الوطنية اللبنانية في يده. كان الرئيس الياس الهراوي يروي في أسى، كيف شاهد كميل شمعون منتظراً على باب حبيقة في مقر “القوات”.

“المسيحيون” في السياسة شيء يتكرر على الدوام. لا شيء يقف أمام الموارنة في الزحف على الرئاسة. بعد خروج أمين الجميل اشتعلت حروبهم على كل الجبهات وكل الشرفات وحتى كل المستشفيات. وكانت كل محاولة لانتخاب رئيس تقصف بالمدافع. وتنقلت قاعة الانتخابات من شتورا الى قصر منصور الى مطار القليعات. وهرب النواب المقترعون الى باريس.

تنتهي مذكرات الرئيس الجميل مع نهاية الولاية الشاقة. ليس كأنك تقرأ مدونات ووثائق ورسائل تاريخية، بل كأنك تقرأ جحيم دانتي بدوائره التسع. في خوف من اللبنانيين وعلى لبنان، يقرأ المرء هذا الفصل من الكوميديا الإلهية. مقامرة جنونية لن تتوقف. صفقات لن تنتهي. هجرات مستمرة. وجملة انسي الحاج التاريخية: غداً يُعزف النشيد الوطني ونحن جالسون. ما اشقى لبنان باللبنانيين.