* قبل هذه العركة التي دخلت فيها مرغمًا- ربما- لم أكن أعرف الفرق بين (الصّلَع والقَرَع). من هو (الأصلع)..؟ ومن هو (الأقرع)..؟ فعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خير لكم.

* في حلقة الفاكهة والخضار؛ ارتفع صوت أحدهم من يميني على آخر من يساري وهو يرفع يده ويهدده ويقول: (راح أنتف لك ها الشعرتين في هذي الصلعة)..! رد الآخر: (وقرعتك هذي راح أدعسها بموتري)..! نظرت بعيني فإذا هما برأسين بلا شعر فعلًا، ولكن لهما أعين يتطاير منها الشرر. ما هي إلا برهة من قذف الكلام؛ حتى قربا من بعضهما، فتماسكا وتداحشا ، ووجدت من واجبي التدخل. وليتني لم أفعل. لن أقول كل شيء؛ لكن نظرات حادة من أحدهما نحوي؛ وتركيزه على جبهتي؛ أبهتتني، حتى رحت أتحسس رأسي. هل أنا أصلع أو أقرع..؟ الحمد لله لست كذلك؛ وإلا لصرت ثالث ثلاثة من الصُّلع والقُرع في سوق شعبية عامة؛ يتحلق حولهم الناس بين متعوذ، ومحوقل، وضاحك، وشامت، وناصح.

* لم تمض علي ساعات بعد ذلك؛ حتى رحت أبحث في أمر الصَّلع والقرَع. لقد اهتم العرب بهذه الحالة حتى جعلوا منها سُبّة. وبقدر ما ورد في اللغة العربية الفصحى من إشارات للصلع؛ وردت إشارات في اللهجات العامية إلى الصلع والقرع أضحت من الأمثال الدارجة، حتى ليمكن القول إن الصلع أديب، والقرع سوقي ذليل. يقول العرب في عاميتهم: (القرعة تتباهى بشعر أختها). و(أحطك على قرعتي). و(أقرع ونزهي). وكذلك: (أقرع وحاط لنفسه ريحة). ثم قالوا: (جبت الأقرع يونسني، كشف راسه وخرّعني). ويقولون في لبنان: (جبت الأقرع يشجعنا، كشف راسه وفزّعنا). ويقال بأن أصل هذا المثل الشائع؛ أن امرأة عانت كثيراً من معاكسات طفلها وسوء مزاجه وكثرة بكائه. وبذلت كل ما في وسعها من حِيل، وأظهرت له من ألعاب، وحكت له من حكايات، دون أن تستطيع أن تشغله بشيء أو تهدئ من روعه. ثم رأت رجلًا مارًا في حال سبيله، فسألها عما دهاها، فأشارت إلى ابنها، و(استرجته) أن يفعل ما بقدرته لإيناسه وإسكاته، فتطوع الرجل لتلبية الرجاء، ومد يده إلى طربوشه وأزاحه عن رأسه، وكشف قرعته للطفل ليتفرج عليها. ما أن رأته المرأة الوالدة؛ حتى هالها ما رأت من قرعته، فسقطت إلى الأرض مغمياً عليها. وعندها خف جيرانها لإسعافها، ورشوا الماء على وجهها، فاستفاقت من إغمائها، فسألوها عما دهاها، فأجابتهم بإيجاز وقالت: (جبت الأقرع يونسني، كشف راسه وخرّعني)..! فسار القول مثلاً بين الناس، وشاع في شتى البلدان العربية. ومن الطريف؛ أن المصريين لا يعرفون مثلاً مشابهاً لهذا، وإن كان قدماؤهم يعالجون الصلع والقرع بحوافر الحيوانات. ويعلل بعض أدبائهم ذلك بقوله: إن المصريين مكشوفو الرأس، ولا يلفون رؤوسهم اعتيادياً بغترة..! ومن ثم فلا مجال للأقرع منهم أن يفاجئ الآخرين بقرعته..!

* ما الفرق بين الصلع والقرع..؟ الصلع غير القرع. يظهر الأول بصورة طبيعية، ويداهم في الغالب عند الكبر. ولهذا فكثيراً ما يُجل ويعتبر دليلاً على النضوج وسعة العقل وغزارة العلم والمعرفة والحكمة. إذا انحسر الشعر عن جانبي جبهة الرجل؛ فهو أنزع، فإذا زاد قليلا فهو أجلح. فإذا بلغ الانحسار نصف رأسه أجْلى وأجْله. فإذا زاد فهو أصلع. فإذا ذهب الشعر كله فهو أحص. والفرق بين القرع والصلع؛ أن القرع ذهاب البشرة، والصلع ذهاب الشعر منها.لكن الغربيين لا يولون الصلع مثل هذا التبجيل.

أما القرع فيرد بصورة غير طبيعية، ويداهم الصغار والكبار على حد سواء. ويعتبر ظاهرة مرضية تؤدي إلى تقشر البشرة والتهابها وسقوط الشعر منها، ولهذا ينظر إليه نظرة سيئة. ومن الطريف؛ أن الغربيين لا يملكون بصورة عامة كلمة تقابل كلمة القرع العربية، وإنما يشيرون إليه باصطلاحات مرضية علمية.

* قلت أعلاه للصلعان والقرعان: افخروا واتحدوا. افخروا.. لأنكم جزء مهم من صورة الإنسان العظيم عبر التاريخ. فعلى سبيل المثال؛ هناك شخصيات كثيرة عملاقة في تاريخنا الاسلامي كانوا صلعاء. من الخلفاء الراشدين رضوان الله عليهم: عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، ثم عمر بن عبدالعزيز. والخليفة الأموي مروان بن الحكم، والفقيه مالك بن أنس. وغيرهم كثير. هذه قصة وقعت بين أمير المؤمنين عثمان بن عفان وزوجته نائلة بنت الفرافصة، قيل: إنه لمّا عقد عليها وقَدِمتْ عليه؛ قعد على سرِيرِه، وَوضع لها سرِيرًا حِيالهُ فجَلستْ عليه، فَوضع عثمان رضي اللَّهُ عنه قلنسوَتهُ، فَبَدَا الصَّلَع فقال: يا بِنْت الْفُرَافِصَةِ.. لا يَهُولَنَّكِ ما ترَيْن مِن صلعٍ، فإِنَّ مِن وَرَائِه مَا تُحِبِّينَ، فقالت: أَمَّا ما ذكرتَ مِن الصَّلَع، فَإِنِّي مِن نِسَاءٍ أَحَبُّ بُعُولَتِهِنَّ إلَيهِنَّ السَّادةُ الصُّلعُ. وقائمة الصلع والقرع مِن القادة والشعراء والفلاسفة في العالم طويلة.

* تختلف مواقف الشعوب ونظراتهم لقرعانهم وصلعانهم. فالصلعة في المغرب تسمى تاج الرجولة. وفي تركمانستان؛ لا يسمح للرجل الزواج بأكثر من زوجة إلا إذا كان أصلع. وفي البرازيل تشترط الفتاة الحسناء على خطيبها الكشف على شعر رأسه؛ لتضمن أنه ليس كثيفًا، فزياده الشعر دليل أنوثة ونقص خصوبة. وفي أوزبكستان؛ يتزوج الأصلع دون مهر، وفي الأرجنتين؛ تعتبر المتزوجة من الأصلع سيدة مدينتها، وفي إندونيسيا؛ يطلب القاضي الذي يعقد للمتزوجين زواجهم؛ التقاط صور لهم كونها تعتبر إنجازًا له.

وفِي استراليا؛ يحق للزوجة أن تترك زوجها ذو الشعر إن وجدت عشيقًا أصلعًا..! وفِي فنلندا؛ وعند قبول الطالبة في جامعة هلسنكي؛ فان أمنية الطالبة ليس النجاح؛ وإنما الوقوع بحب طالب أصلع. الصَّلع والقَرع على ما يبدو؛ للرجال دون النساء. لا مكان للنساء في هذا الحزب العظيم.

* ألم أقل لكم أيها (الصُّلعان والقُرعان) في العالم: افخروا واتحدوا..؟ والله لو كنت- أنا- ذا صَلع أو قَرع؛ لما ترددت في الانضمام إلى حزبكم الموقر، لكي أفخر معكم..!